خطاب الحداثة من منظــومة القراءة إلى سلطـــة القـــارئ
ملحق ثقافي الثلاثاء31/1/2006 محمد أسامة العبد القراءة تمثل وحدة معرفية من حيث الأداء التحليلي أو الاستقرائي لتحصيل رؤية معينة إزاء منتج معين، ولإنجاز مهمة القراءة طبقاً للتعريف اللغوي الذي أشرت إليه في دراسة «الرؤية النصية وتشكيل الرؤية»،
أرى من الضروري التعريف بأهم العناصر المعتمدة في إنجاز مهمة القراءة بحيث نتمكن في النهاية من تحديد هوية معرفية لنص القراءة المنتج، وفي الوقت نفسه نستطيع أن نتحقق من تأدية مفهوم القراءة الكلية أو القراءة الشاملة التي ترتكز على مجموعة احتمالات أو مستويات بحثية ضمن إطار المفهوم العام للقراءة، وتشكل مفردات مثل القارئ.. النص.. المرجع أهم العناصر التي تسهم في تدوين مفهوم القراءة. ويعتبر القارئ أحد أهم هذه العناصر لما يتمتع به من سلطة معرفية تتضمن أدوات تعريفية وتحليلية ثم تأويلية لتأطير المنتج المعرفي، وتعتبر سلطة القارئ الجزء الأكثر تأثيراً في تدوين مفهوم القراءة كعملية إبداعية ذات بعد معرفي مؤثر في صياغة المفهوم العام للوعي. ومع تطور أساليب الكتابة ودخول عنصر التكنولوجيا في حقول التعريف بالنتاج الإنساني تطورت أساليب ومفاهيم القراءة، ويعود ذلك بالدرجة الأساس إلى النظريات النقدية التي ظهرت ابتداءً من القرنين الماضيين والتي أسست لمنهجية علمية في طريقة القراءة، سواء كانت القراءة لنصوص مكتوبة أو قراءة لآثار فنية وجمالية لمختلف الجوانب الحياتية، وبعبارة أخرى، القراءة التي تعكس وجهة النظر بالمنتج الإنساني سواء كان أثراً نظرياً أو تطبيقياً. سلطة القارئ تمثل مجموعة إحداثيات تتشكل ضمن بيئة مؤسس لها من حيث (الإرث المعرفي والوعي المكتسب)، وهذه الإحداثيات التي يسميها البعض أدوات تؤدي وظيفة محورية ضمن شبكة علاقات ورؤى مع آليات القراءة الأخرى المتمثلة بسلطة النص (المرجعيات التي تخصص كل من النص والقارئ). وبناءً على هذا التوصل يمكن تجسيم سلطة القارئ إلى مجموعة طاقات وإمكانيات تعمل معاً لتؤدي وظيفة مشتركة، وظيفة تطويرية تعنى بالاقتراب من منطقة النص المكتوب وفق سياسة عمل منهجية، ثم تتحرى المداخل المتوقعة والمقترحة للنص قبل الولوج إلى بواطنه، وهذا التحري يتم من خلال بناء شبكة من العلاقات مع النص تسهم في دفع عملية القراءة بالاتجاه الصحيح وتمكن القارئ من تنفيذ جزء من سلطته ضمن عملية القراءة. إذن فالأدوات الفنية التي تشكل سلطة القارئ يمكن أن تكون أدوات مكتسبة يستطيع القارئ أن يحصل عليها من خلال الاستفادة من الإرث الأدبي المتمثل «بالنظريات الأدبية» ذات الصلة و«نظريات النقد الأدبي» التي تشتغل في مناطق تحليل النص إلى بنيات ورؤى وعلاقات. ويمكن أن تكون أدوات مستنبطة، يستطيع القارئ أن يطور قابليات ذهنية وتحليلية تؤدي وظيفة إيجابية ضمن عملية القراءة. فالقدرة على تمييز وتحديد أبعاد النص، المتمثلة بالأبعاد البيئية المكانية والزمانية والأبعاد النفسية والاجتماعية, تمثل علامة مميزة ومتطلباً أولياً ضمن تلك الأدوات. وهذه القابلية تتيح تبني الخطوة التالية، الخطوة التي تمثل القابلية التحليلية التي من شأنها أن تعمل على كشف النسيج الداخلي للنص، والقابلية التحليلية تؤدي إلى كشف جزء من المرجعيات المتعلقة ببناء وتشكيل النص، وكذلك تمهد إلى التأسيس للرؤية التفكيكية التي تأتي دائماً متلازمة مع الرؤية التحليلية، وفي الكثير من الأحيان يتم الدمج ما بين الرؤيتين. فسلطة القارئ تمثل ماهية الأدوات الفاعلة القادرة على إضاءة البيئة المحتضنة للنص وتحليل وتفكيك النص، ثم إعادة تشكيل مجموعة الرؤى والمفاهيم ضمن نسق لغوي يعكس وجهة النظر أو الاستنتاج المتوقع لرؤية النص. إحداثيات سلطة القارئ تتمثل بشكل عام بمجموعة منظومات، منظومة المنهج، منظومة تحليلية، منظومة إرثية تستلهم مفردات التراث والتاريخ والميثولوجيا. هذه المفردات تساهم في بناء رؤية واقعية في فهم الإطار العام للنص، من حيث المعطيات البيئية التي رافقت تشكل النص، وأقصد بالمعطيات البيئية للعناصر المتعلقة بمفاهيم الزمان والمكان والمجتمع، وهذه المفاهيم تشكل أهمية بالغة ضمن مفهوم سلطة القارئ، لأن البعد البيئي لأي نص يلعب دوراً فاعلاً في عملية الكشف عن الهيكلية والبنية الخاصة بذلك النص. وعلى سبيل المثال: النصوص المنتجة في بيئات شمال أمريكا ترتبط ارتباطاً بالمفهوم البيئي لمجتمعات شمال أمريكا، من حيث التصور التاريخي والمعرفي للمفاهيم الحياتية لتلك المجتمعات. وبالتالي فالقارئ الذي ينتمي لمجتمعات شرقية سوف يصطدم بمعضلة الفهم الواقعي لنصوص تشكلت وفق رؤى ومفاهيم أثنية واجتماعية تختلف بعض الشيء عن الخلفيات الاجتماعية التي تمثله. وهذا ينطبق تماماً على القارئ الذي ينتمي لمجتمعات شمال أمريكا، وبعد تطور أساليب القراء المرتبطة بوسائل التطور التكنولوجي، من حيث الاتصال والتأثير، استطاع الكثير من القراء تجاوز هذه المعضلة من خلال الاطلاع على المنظومات الفكرية، والاجتماعية السائدة في مجتمعات مختلفة، والوقوف على أهم الفوارق المنظورة التي تميز المجتمعات المختلفة، وصار بإمكان القارئ من مختلف الأثنيات أن يرصد سلوكيات النص المرتبطة بالمفاهيم البيئية والاجتماعية. إضافة إلى ذلك فالدراسات النفسية، التي أنتجتها مدارس فكرية مختلفة، ساهمت إلى حد كبير في تدعيم سلطة القارئ بمنحه مساحة تأملية واسعة يستطيع من خلالها دراسة الأبعاد النفسية والسلوكية التي عملت على ترسيخ مرتكزات النص، وعكس الرؤى والإسقاطات الفكرية التي مارسها الكاتب على واقع معين شكل جزءاً من تجربته الحياتية، فدّون مجموعة الارتدادات الذهنية أو مجموعة المحرّضات والاستقراءات وحتى الاستنطاقات في وثيقة سميت بالنص أو الأثر. المنظومة الإرثية التي تؤسس ركناً حيوياً في سلطة القارئ المعرفية تعتمد على مدى استفادة القارئ من إرثه الثقافي المرتبط بمجتمعه الأم، من خلال الكشف الدقيق والتحليل المنطقي والعلمي لمركبات ذلك الإرث، حتى يتمكن القارئ من استثمار شبكة المفاهيم والرؤى والسلوكيات التي أنتجتها تلك المنظومة في استقراء ماهية المنتج أو النص، أي عكس جزء من تلك المفاهيم ضمن تحري دلالي على بيئة النص المكتوب إذا كان النص منتجاً ضمن بيئة القارئ نفسها، وهذا يساعد بدوره على فك مجموعة الرموز وقراءة الأبعاد النفسية والرؤى الأسطورية التي استثمرها الكاتب في تشكيل النص. أما إذا كان النص المكتوب ينتمي إلى بيئة مختلفة، ويخضع لمنظومة إرثية تختلف عن المنظومة الإرثية للقارئ، فيتوجب على القارئ أن يمارس من خلال سلطته المعرفية نوعاً من المقارنة الأولية بين مجموعة ثيمات وعقد يؤدي كل منها وظيفة معينة لتأطير بعد إنساني أو سلوك معين، لأن الحضارات الإنسانية المختلفة، وإن نشأت في بيئات جغرافية متباعدة، تستخدم رموزاً ودلالات متنوعة لتعريف إحداثيات إنسانية عامة تشترك بها كل المجتمعات الإنسانية، مثل ذلك عنصرا الخير والشر. فالرموز المستخدمة لتدوين مفاهيم الخير والشر في مجتمعات الهنود الحمر تختلف عن الرموز والدلالات المستخدمة لتدوين ذات المعنى عند المجتمعات الشرقية القديمة. إنما المدلول العام في كل هذه التنويعات الدلالية يبقى ثابتاً، أي الخير والشر، وبالتالي فالقارئ لنصوص تنتمي لمنظومات إرثية مختلفة، وكمحاولة أولى للاقتراب من شواطئ تلك النصوص، يحاول أن يستثمر تراكمه الإرثي في استشفاف بعض المفاهيم ضمن الإطار العام للنص، وأحياناً ينـزع القارئ إلى عقد من التقابل الدلالي للوصول إلى حقيقة محددة ضمن بنية النص. وبدون شك فإن الغنى الإرثي الثقافي يشكل دعامة وركيزة مهمة ضمن سلطة القارئ المعرفية التي تعتمد في تنفيذ آلياتها على المنهجية الدقيقة، أي القراءة المشفوعة بوعي وتخطيط مسبق. تشكل المنظومة التحليلية ضمن سلطة القارئ المنطقة الأكثر إشراقاً والبعد الأوسع أفقاً في ماديات حالة الكشف عن بواطن النص. فآلية القراءة تسبر أغوار النص من خلال عدة مستويات بنائية، والسلطة التحليلية تمثل المرتكز الحي في هذه الآلية، من خلال دراسة وفهم المصطلحات والتراكيب اللغوية التي تؤسس البنية الشكلية للنص كخطوة أولى. ثم تعمل على ربط هذه المفاهيم والمصطلحات برؤية القارئ وفق أسلوب منهجي متسلسل، أي أنها تعمل على تحليل مفاهيم الخطاب الأدبي أو الفني وفقاً للرؤية المتاحة ضمن سلطة القارئ. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تعمل على تحليل المفاهيم والمصطلحات والرموز المتضمنة في النص المكتوب وفقاً للانتماء البيئي والخلفيات الإرثية والاجتماعية للنص المكتوب، أي أنها تعمل على تحليل البنية الشكلية للنص من خلال منظورين في آن واحد، منظور القارئ ومنظور النص. لأن هكذا عملية تؤدي إلى خلق بيئات مشتركة ما بين القارئ والنص كتبشير أولي بحالة القراءة، وذلك إزاحة الستار عن البنيات الهيكلية في كل المنظومتين الإرثيتين للقارئ والنص معاً، مما يدفع بالقارئ إلى بحث ماهية المفاهيم المشتركة ضمن البيئة الجديدة التي احتوت عناصر دلالية تنتمي لكل من بيئة القارئ وبيئة النص. ويمكن تسمية هذه الوحدة ضمن المنظومة التحليلية بالوحدة التعريفية التي تسبق وحدة الشكيل، ووحدة التشكيل يمكن تعريفها على أساس أنها الورشة الفنية التي تعمل من خلالها آليات سلطة القارئ في خلق قوالب فنية تسهم في دراسة البنى الداخلية للنص. لأن القراءة الاستنطاقية، بمستوييها البنيوي والتفكيكي، تعمل على تحديد وتشخيص البنى الداخلية للنص ومن ثم تفكيكها ورسم ملامحها المعرفية والمرجعية. وحتى يكون القارئ مهيأ لاستقبال مثل هذه البنى يجب أن توفر قوالب فنية قادرة على احتواء هذه البنى وتحليلها ضمن سياقه اللغوي السيميائي، أي توفير إطار ميكانيكي لمفردات ربما تبدو غريبة بعض الشيء وغير مفهومة. ووحدة التشكيل ضمن المنظومة التحليلية لسلطة القارئ توفر هذا الإطار الذي يتيح في فهم وتحليل مجموعة من الرموز والإشارات والدلالات مكتشفة ضمن الوحدة التعريفية ووحدة التشكيل، ضمن المنظومة التحليلية تمثل بحق المرحل التكنيكي في قلب المنظومة، المرجل الذي يعمل على تشظية مجموعة المفاهيم أو العلاقات والمرجعيات التي شكلت هذا الرمز أو تلك الصورة ونقلها من المفهوم السميائي الخارجي إلى المفهوم المدلولي الأكثر شمولية، أي إعادة تحليلها ضمن بيئة معرفية تنتمي لعوالم القارئ الذي يحاول إخضاعها لسلطته المعرفية. وهذا الإخضاع يؤدي إلى تهيئة تلك الرموز والإشارات والبني لعملية تأويل فنية منسجمة مع الرؤية التي تشكل مفهوم القارئ. ومن هنا نلمس التباين في طرح رؤى مختلفة لقراءات مختلفة من قبل قراء مختلفين. أو يمكن القول أن النص المنتج، وأقصد هنا نص القراءة يعتمد في تشكله على المنظومة الفكرية والمرجعية للقارئ، إنما في السياق العام يخضع لسلطة معرفية تتضمن مجموعة منظومات ميكانيكية تعمل من حيث المبدأ التطويري على كشف وتمييز الملامح الخارجية للنص. وكثيراً ما يسميها البعض بالملامح اللغوية. ثم تعريف الوحدات الفنية التي تشكل النص مروراً بتحليلها إلى بنى وأنساق اعتماداً على الرموز والإشارات التي تمثل البعد الدلالي أو الدالات، وصولاً إلى إعادة تشكيل هذه البنى ضمن تصورات وقناعات الرغبة التي تشكل سلطة القراءة.
|