|
ثقافة أقول: في هذه المجموعة التي يشي عنوانها «لا تسجليني غياب» بما يؤكد ما أشرنا إليه، بهذا «التوسل» والإلحاح الشاعري الطفلي للتلميذة، التي تخاف الغياب، رغم أنها تسعى إليه للراحة من يومٍ دارسي ثقيل المرور.
من تلك الحالة «الطفلية»، كانت انطلاقة قصيدة الشاعرة، وخلالها تختصرُ يولا مشاعرها، من خلال محاكاة غير قصدية، لما نادت به بعضُ النظريات الأدبية، الموغلة في القدامة، فأن تُحاكي شيئاً هو أن تُقلدّه أو تُماثله. والنظرية الإغريقية وأقصد الزمن السقراطي الأفلاطوني، تقول: حين نُحاكي شيئاً فإننا ننتج الصورة الثالثة له. وليس معنى ذلك أننا هنا نُسجل واقعاً، بل وكما يُشير الكثير من الباحثين، يقودنا هذا إلى أن المحاكاة ليست من الخارج فقط، بل هي اختراق في المعاني والرموز، وكان على يولا خليل لتنتج عملها الأدبي، إنها ذهبت باتجاه هذه المحاكاة، فكانت أن أنسنت الأشياء من حولها ليكونوا «شخصيات» قصيدتها، أو لتستحث ذواكر تلك الأشياء، لتفرد حكاياتها، تلك الأشياء التي كانت حتى وقتٍ قريب، تُشاركها مشاعرها، وأحساسيها، ثم ليقول الجميع معاً نصّ الحكاية الشعرية. تركتُ دميتي في هذا الكتاب تركت التراب والأحجار.. وطبشورةً حمراء كنت اكتب بها اسمك.. في قيعان البحار في مقدمةٍ أطالتها بعض الشيء للمجموعة الشعرية، وهنا ربما لتؤكد تلك الحالة الطفلية من «تكرار الطلبات» لتأكيد استجابتها، تقول: «هكذا هي المشاعرُ، تحبّ الثرثرة والإلحاح دوماً.. ألستِ من كنتِ تقولين بأنّ الصغار أقوى تمسّكاً بمطالبهم من الكبار ؟». وهنا العمل الفني، يصير مهماً، اذا استطاع أن يصيرَ بديلاً للواقع في مخيالنا، وذاكرتنا، فنصير بدل أن نستدلّ على الاشياء من خلال الواقع. نستدلّ عليها من خلال العمل الفني الذي في ذاكرتنا. وهذا ما ذهبت إليه يولا في كل تشخيصاتها، وتجسيداتها، وحتى في تمثلاتها. تمشي الوردةُ حينما تُريد.. في شوراع المدينة في بساتين الضيعة.. وفي طريقها لتزور الغيمة القريبة تُباغت إشارات المرور.. ونباح الكلاب الليلية ولا تلتفت.. يميناً أو شمالاً «..نعم، المشاعرُ صغيرة العمر مثلهم، ولديها القدرة الهائلة على الكلام مثلهم.. المشاعر صغيرة العمر مثلهم.. فهل ستكبر معي وتتعلّم دفن الآمال، وشرب الحسرات بصمتٍ، وبدون كأس ماء مثلنا ؟» ذلك ما تتساءل به يولا في مقدمتها الطويلة، وذلك ماحاولت طول الوقت الإجابة عليه، وهذا ما حاولت أن توصله إلينا في قصيدتها التي تأبى التكثيف - حتى الآن - فلا يزال حبُّ التأكيد على الأشياء متوفراً في خيال الشاعرة، خوفاً للمطالب من أن لا تُستجاب، لذلك تلجأ إلى سرد التفاصيل الكثيرة، والشرح، محاولة قدر الإمكان أن لا ترهق جسد القصيدة بالطلبات، تماماً كما تلحّ طالبة على معلمتها أن «لا تُسجلها غياب» أو على أمِّ بشراء حاجيات أو ألعاب عزيزة على نفسها. «لطالما علّمتني المشاعر، أن أتكلّم معها، وألعب معها، وأعمل عنها، وأحزن لأجلها، وأفرح من سخريتها عليّ.. لطالما علّمتني المشاعر، فهل استطيع اليوم أن أعلّمها وأردّ لها الجميل ؟» تقول يولا، وهكذا ترى، بأنها ترد شيئاً من الجميل لمشاعرها القديمة، وهي اليوم قاب قوسين، من تلمس مشاعر جديدة، وقد مشت خطوات في مرحلةٍ عمريةٍ جديدة، تحمل مشاعر جديدة، ورؤى جديدة، وذلك قبل أن تنسى المشاعر القديمة، التي طالما روادتها، فهي هنا تُسجلها قصائد بعقلية طفلٍ لحوح، يُكثر من تكرار الطلبات نفسها، مفصلاً بالكثير في كلّ مرة. «سأرميها، ولن أسأل عنها فقد كبرتْ، والعمر كفيل.. نعم لقد كبرتْ، وفرض العمر عليّ الرّحيل، وكلّ طفولتي تناديني.. مع صورتك وصوتك.. بكلماتك.. بهمساتك..وصرخاتكِ» وتقصد بذلك مشاعرها التي أخذت الكثير من سردها في المقدمة، وكأنها، وهي في حالتها البرزخية هذه، وهي تكتشف طرقاً جديدة في الحياة، تلقي بالقديم في سلة المهملات، لكن سرعان ما تعود إليها تفتش عنها، وتُعيدها، وبين هذا الإقدام طوراً، والإحجام حيناً، ثمة تريثٌ، لقول هذه الحالة شعراً جميلاً. لكن: في برامج الأطفال.. اسمحوا للعين أن ترى العيد.. في سكّة القطار |
|