|
إضاءات كثير من المؤرخين والمثقفين والفلاسفة تبنوا هذا الرأي - بشكل أو آخر – وعرضوه كلٌ على طريقته، لكن الأبلغ تأثيراً وتعبيراً قد يكون ما قدمه روائي أسيوي في صيغة أسطورة شعبية قديمة ضمن رواية شهيرة.الروائي هو «جنكيز ايتماتوف »،والرواية هي« ويطول اليوم أكثر من قرن » أو« نقطة أم العواصف» التي أصدرتها وزارة الثقافة السورية عام1988 بترجمة عاطف أبو جمرة، ضمن «سلسلة روايات عالمية ». الأسطورة تحكي عن قبيلة من الرعاة المتوحشين تغزو أراضي أقوامٍ مجاورين.حيث يعمدون إلى تعريض من يقع بأيديهم أسيراً من شباب تلك الأقوام إلى طقوس قاسية لمحو ذاكرتهم تبدأ بحلاقة شعر رأس الأسير حتى انتزاع كل شعرة من جذورها، ثم يُلصق على الرأس جلد رقبة جمل مذبوح للتو،ويُنقل الأسير مقيداً إلى مكان بعيد عن الناس ليترك تحت الشمس الحارقة لعدة أيام دون طعام أو ماء ، متعرضاً لعذاب لا إنساني مرعب ناجم عن إطباق وضغط جلد الجمل ،فإن نجا من الموت صار (مسلوباً) منتزع الذاكرة طيعاً، فيقدم له الماء والطعام، وتعاد إليه قواه بالتدريج ليستخدم كعبدٍ يكلف بتنفيذ أقذر الأعمال وأصعبها.. (المسلوب) كما يصفه الروائي: «لا يعرف من هو..لا يعي وجوده كإنسان..في كل عبد يوجد كائن متمرد، لكن المسلوب استثناء فريد من نوعه.. كالكلب لا يتعرف إلا على صاحبه..كل همه إشباع جوعه.. »..وتجيء السطور التالية في الرواية لتكشف عما يمكن عمله عبر (المسلوب)، فحين تدرك أمه بخبرتها ما حل بابنها الأسير تتسلل إلى المرعى الذي يرعى فيه جمال آسريه، وتغتنم الوقت الذي يكون فيه وحيداً لتحدثه عن حقيقته وعن أهله وتاريخه في مسعى صبور لاستعادة ذاكرته تمهيداً لاستعادة حريته،ويبدأ الابن باستذكار الأشياء ببطء شديد، والأم لا تكل إلى أن يلمحها أحد الغزاة، فيعود لتشويه ذاكرة الأسير واضعاً في رأسه فكرة أن أمه عدو له يريد به شراً،وأن عليه منعها من ذلك.وحين تحضر الأم في المرة التالية يكون في انتظارها قوس ابنها وسهم ينطلق منه سريعاً مخترقاً قلبها.. لم يعد الغزاة في عصرنا يلجؤون إلى تلك الطريقة الوحشية، فقد صارت لديهم وسائل أكثر إنسانية وتحضراً لمحو الذاكرة، سواء كانت فردية أم جماعية. وهذا ما يفعله الإعلام العالمي الواقع تحت الهيمنة الأميركية،وما تصنعه وسائل الاتصال الجماهيري ذات الإمكانيات الهائلة التي تعمل بتوجيهه.والمثال الأوضح ما نراه في واقعنا الراهن. حيث العمل على تدمير الإرث الثقافي لبلادنا (ذاكرتنا) جارٍ على كل المستويات، وحيث المسعى إلى تبديل المفاهيم والأفكار والتوجهات لا يتوقف لحظة، وبقدر كبير من الاستهتار بأبناء المنطقة.فالسياسة الأميركية تعلن جهاراً منذ نحو نصف قرن أن غايتها الأساسية في المنطقة خلق الصراعات الأثينية والطائفية والمذهبية وإشغال أهل المنطقة بها لأجل حماية إسرائيل من أي خطر محتمل، وتبرير قيام دولتها على أساس ديني ،ولأجل تلك الغاية المعلنة أنشأت، مباشرة أو عن طريق أتباعها، عشرات المحطات المختصة بتأجيج التعصب الطائفي والمذهبي والقومي،إلى جانب القنوات السياسية والإخبارية التي (لم تقصر) أبداً في هذا المجال،وكذلك في مجال تحسين صورة العدو مقابل تشويه صورة الشقيق والصديق، حتى إن قناة تلفزيونية (عربية) ذائعة الصيت لم تجد ما تعرضه خلال العدوان الإسرائيلي الأحدث على غزة سوى سلسلة برامج تحكي عن اضطهاد اليهود في أوروبا!!.. وكأننا ملزمون دوماً بتسديد فواتير جرائم ارتكبوها هم.. |
|