تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عمـــــود فوبيــــا

ثقافة
الثلاثاء 5-5-2009م
عبد الكريم الناعم

الذي استدعى هذا العنوان تغطية قرأتها عن مهرجان له سمعته الطيبة، ولا أسميه تجنباً لسوء التفسير، وقد جاء في تلك التغطية ما يفيد خلو الأمسيات من الشعر العمودي،

ويفهم من سياق الكلام أن تلك مزية من مزايا المهرجان، لم ينس أن يلمح (المغطي) للحضور الكثيف لقصيدة النثر.‏

التغطية المشار إليها، تحمل ضمناً موقفاً من الشعر الإيقاعي بعامة، ولن أتمهل الآن عند هذا المفصل، بل ستكون وقفتي مع تلك الفوبيا من الشعر العمودي وهنا أتوقف عند المفاصل التالية:‏

أولاً: كنت أظن أن ما أصاب العالم من تحولات، منذ تسعينيات القرن الماضي قد وضع (المعتبرين) أمام معطيات جديدة، وخاصة أن الزلزال الذي ضرب المنظومة الاشتراكية قد دفع بالعديد من المفكرين الماركسيين لإعادة النظر فيما كان يحظر الاقتراب منه، وكان الحظر ناتجاً عن قرار رسمي، وليس لأن ثمة شيئاً خارج حدود ما هو قابل للنقاش، وكلامي هذا، حتى لا يساء فهمه أقول: إنه أبعد ما يكون عن التفشي بما حدث، فأنا مازلت أرى في الاشتراكية تحديداً ، الخيار الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية، ولا يغير من إيماني هذه الفقاعة العولمية المتوحشة والتي ستدفع البشرية كلها أثمان طغيانها وجبروتها وذكر المنظومة الاشتراكية يجيء بسبب ما حملناه نحن وغيرنا من إرث تلك المرحلة، ماركسيين، ودائرين في فلك الماركسية ومعاصرين لها، فالذي لا شك فيه أن تلك الفاعلية في الحضور لأسس النقد الأيديولوجي، قد استمدت قوة حضورها من قوة المنظومة الاشتراكية ذاتها، فلما حدث ذلك الزلزال انكشف الكثير من المخبأ حتى بالنسبة للذين كانوا يسيرون وراء العربة، وحولها، وأصاب ذلك الرذاذ بعض الذين كانوا يجلسون في مقاعد القيادة، الذي استدعى هذا الكلام هو تلك الحدة واليقينية المزعومة في (التغطية) وهي ليست ناتج الجدانوفية كما قد يتبادر لبعض الأذهان، بل الجدانوفية تتويج للتعصب الأعمى الذي يرقى لدرجة اليقين عند المخدوع به، أو أنه يريد أن يجعل منه يقيناً ليس لأهليته، وأحقيته، بل بدوافع لا علاقة لها بصفاء عملية الإبداع أو النظر النقدي.‏

ثانياً: نحن في الوطن العربي، والحال من بعضه، ثمة بيننا من يحمل (جيناً عنصرياً) أدبياً، فهو يقيم الشعر من خلال شكله، فإن كان شعراً إيقاعياً فهو من فئة ما يجب طرده من جنة الشعر، فإذا كان (عمودياً) فهو مما يستحق الرجم!!‏

هذه العنصرية الأدبية، وهذا التشنج يتولد من ضيق في الأفق الفكري، وفي معنى قبول الآخر، وهو موقف يتناقض مع (الحق) أحد ثلاثة أقانيم جوهرية، وما يتناقض مع الحق، يتناقض، حكماً مع الخير والجمال، وكفى بهذه النتيجة كشفاً وتعرية لا ترحم، كل الذين زعموا أنهم وحدهم على الحق، ومخالفوهم على باطل، هؤلاء جميعاً لم تعش مذاهبهم، وهي لا تصلح لما فيه خير الإنسان، فما أكثر العبر وما أقل المعتبرين.‏

ثالثاً: سأفترض مقدماً إمكانية فصل الشكل عن المضمون في الشعر، وهو فصل تعسفي يجري لأغراض دراسية بحتة، فهل من الانصاف أن نحكم على القصيدة، أو حتى على الرجل الإنسان من خلال شكله؟!‏

هنا لا بد من طرح السؤال التالي: ترى ماذا نقول عن الشعر العربي الرائع الذي لم يعرف العرب شكلاً غيره خلال أكثر من ألف وأربعمئة سنة؟‏

هل نلقيه؟!‏

هل نلغيه إكراماً لعيني رؤية ناقصة، ناتجة عن علة في الرائي لا في المرئى، وهي رؤية تنطلق، في الغالب من دوافع غير مشكورة، وتلتقي مع الذين يفرحون بموت، أو بتمويت منافسيهم، ظناً منهم أن الساحة تصبح أكثر مناسبة لحنجلاتهم القادمة.‏

رابعاً: القصيدة العربية الحديثة، إن جازت التسمية، حملت الكثير من الغنى، والتلوينات، والبنائية الدرامية والصور المبتكرة، وفرش ذلك القصر بأثاث جديد، وجرى الاهتمام به، وبتجديده، وإظهار فنونه المعمارية الراقية على أيدي عدد من المهندسين / الشعراء المبدعين، على مساحة هذا الوطن،فلم يكن الشكل عائقاً بالنسبة لهؤلاء بل استفادوا مما ورثوه من تلك الهندسة المتمثلة في الغنائية العالية، وفي استحضار المعاني المدهشة، والقوافي التي هي عند العجزة قيد آسر، تصبح على أيدي الشعراء مصابيح من كلام.‏

القصيدة العربية، بشكلها العمودي، في الأزمنة الحديثة التي عايشناها ظلت بساتين خضراء مثمرة على أيدي بدوي الجبل والأخطل الصغير والجواهري، ونديم محمد، ونزار قباني، ومن كان من أهل هذه السدة وحمل عدد من الشعراء العرب (الحداثيين ) تلاوينهم وتجربتهم وكتبوها فبدت نصوصهم ذات أفانين، وإضافات، لم تعرف من قبل، وكان هذا على أيدي عدد من الشعراء الذين جاؤوا بعد جيل الرواد، ثم غاب هذا النمط، إلا قليلاً، أكثر من ربع قرن، ليستعيد بعض حضوره وهو منذ تسعينيات القرن الماضي يعود بكامل أناقته للمهرجانات (الخالية العقد) ومع هذه العودة برز جيل جديد من الذين يتقنون العزف على أوتار تلك الآلة، ومنهم في سورية على سبيل المثال: علاء الدين عبد المولى، وحسان الجودي، وياسر الأطرش، وحكمت شافي الأسعد، وسامر محمد، وحسن بعيتي، والعدد في ازدياد.‏

أرى أن بعض المسؤولية في نشر الرأي الفطير يقع على عاتق من يشرفون على الصحافة الثقافية السورية، وهو رأي لا يدعو للمصادرة، بل لاتخاذ موقف مما يؤثر سلباً في الإبداع، فلا نروجه، ونضع الأمور في أنصبتها الإغنائية بعيدا عن روح الهراش.. AL-naem@gawab.com

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية