تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ســـــــورية الجميلــــــــة .. رسائل الحب الستيني (76)

ثقافة
الثلاثاء 5-5-2009
أســــــــــعد عبـــــــــود

لا أستطيع أن أدعي أن السنديان لا يتراجع أبداً.. طالما أبكاني الفأس والمنشار وهما يقطعان الشوامخ التي اعتقدتها أقوى من الرياح.. منذ أسقط «الشرقي» سنديانة أبي مالك، اعتدت أن أرى دماء الأشجار العتيقة الباسقة.. وكبر بي الزمان وأنا أرى السنديان يتابع تقهقره أمام غراس صغيرة أو أشجار ضعيفة.

رغم ذلك كله يحزنني مشهد تراجع غابة السنديان التي كانت تشهد كرنفالات الاحتفالات الشعبية.. الرابع.. الميلادية.. الخ..‏

غابت منها الظلال التي تخيم على الأرض من كل جانب فتصنع ظلمة كافية لحجب من تحتها عن العيون.. قلموها.. نوروها.. وشقوا فيها طرقات.. وأنشؤوا موائد للطعام وملحقاته.. شيء لافت يملأ البعض بالدهشة ويملأ آخرين ممن عرفوا ذاك التاريخ بالاستهجان والقرف..‏

< لا رابع بقي ولا ميلادية..‏

- كيف يحتفلون إذن؟‏

< كل يغلق بابه ويحتفل داخله..‏

- وحده؟‏

< ربما مع بعض الأصدقاء.. يغنون.. يشربون..‏

كررت العبارة صامتاً.. «كل يغلق بابه ويحتفل داخله».. كم تغيرت الدنيا.. النقيض تماماً.. كنا «كل يخرج من بيته إلى الفرجة».. الرابع.. الميلادية.. عرس.. خطبة.. أي شيء.. من بيوت صغيرة ضيقة عاجزة عن أجواء الاحتفال نخرج.. والطبيعة أرحب وأجمل.. غابات وطرقات وبشر كل يعيش ساعاته كما يهوى.. كأنه الحلم.. ولا بد أن ينكسر إن أغلقنا على أنفسنا الباب..‏

< كل شيء متوفر داخل البيوت.. والتلفزيون ينقلك إلى العالم..‏

- التلفزيون يضحك علينا.. يتنقل هو ونبقى جالسين..‏

< يعني الرابع يأتي إليك بدلاً من ذهابك إليه؟!.. ما نحن فيه رائع..‏

- رائع.. أين الروعة..؟!‏

< أريح..‏

- لكن الروعة لا تأتي بالراحة.. الحركة بركة ومتعة واكتشاف وروعة..‏

< يا أستاذ مضى زمن الرابع.. ولقاءات الشباب والصبايا بين حنايا الغابات وتحت ظلال الأشجار الكثيفة.. الآن يلتقون على الانترنت والهواتف والخلويات.. وعندما يصلون إلى بعضهم يكون كل شيء جاهزاً.‏

صحيح.. عليّ أن أعترف.. ليس الحب كل شيء في الحياة.. ولم يكن كذلك.. وليست الاحتفالات الشعبية الطريقة الوحيدة للقاء.. ألم ينس جابر الصبية التي راح يتبعها من رابع إلى رابع عندما ركب تلك «الشيفروليه».. أمضى نهاره ودفع كل ما معه وهو يذهب ويعود بين رابعي «السخابة» و«الشيخ غريب».. مذهولاً بمتعة الشيفروليه الخرافية.. ربع ليرة وراء ربع ليرة.. لم يبق معه ولا قرش.. فإن صادف التي جاء يتبعها لن يجد في جيبه ما يحلي به فمها... وقفل عائداً إلى قريته..‏

يجب أن أعترف بالتقدم والحضارة.. قال لي عادل منذ 35 عاماً: رومانسيتك تدعوني للقرف..! كيف تزعم أنك مادي؟!..‏

ما معنى مادي؟ ما معنى رومانسي؟.. أنا أحيا.. أحب الطبيعة.. الغابات... الطرقات.. الظلال.. المياه.. الطيور..‏

البحر - رغم تحديه الدائم لي - أهذه رومانسية أم مادية؟!‏

يقول بابلو نيرودا: «حبيبتي.. نحن نحب.. يعني أننا رومانسيان..»‏

سألت سلوى؟.. ماذا يعني أننا رومانسيان.. قالت: يعني أننا واقعيان.. وماذا يعني أننا ماديان.. شرحت وكأنها قالت الشيء نفسه..‏

يجب أن أطالع.. أقرأ .. عيب أن أسقط في المادية والرومانسية..‏

أنا وسلوى وتخيلته الحب.. ومعه تفاهمت مع المادية والرومانسية.. بل حفظت أيضاً تعابير أخرى: الواقعية... البراغماتية.. وأشياء أخرى..‏

أنا لا أتخلى عن شيء حفظته.. أحب ما أحفظه ولو كان كريهاً..‏

لكن.. عند عينين لسنونو جميل هتف قلبي..‏

أحببت نسمة عند زاوية الفم.. ومرة أخرى سقطت في الرومانسية.. وفشلت توبتي.‏

عدت أعدو وقد تقدمت بي السنون بين الجبال والوديان.. أعشق المفارق والطرقات.. أراقب الزهور والثمار.. وأجدك في كل شيء.. وحين لا تكونين أكون بانتظارك..‏

لن أسمح للستين أن تقعدني.. سأقاوم..‏

عندما سألني القرحيلي: لماذا عدت من «الرابع» والدنيا بعد الظهر، حيث المحتفلون يعودون بعد الغروب.. لم أجبه واستهجنت استفساره وهو الذي لم أره في احتفال مطلقاً.. لا يحتفل ويشجع الناس على الفرح والذهاب إلى الفرجة.. أقعدته السنون أعني أقعدت جسده البدين..‏

أبي أيضاً.. لا يذهب إلى الفرجة.. قليل جداً.. فقط.. عندما يحتفلون بعيد الوحدة كان يذهب ويدبك كي يغطي على انتمائه للحزب السوري القومي.. هو لا يخاف عادة لكنهم خوفوه..‏

عندما رآني بعد ظهر ذاك اليوم، استهجن وقال:‏

< ما الذي عاد بك؟!‏

- ضجرت..‏

< ضجرت من الفرجة وعدت ولا أحد في القرية كلها..‏

غمغمت.. مقرف ما بي.. سقطت المادية.. إذ لعبت على حبة الزهر وخسرت «الخرجية» كاملة.. وعدت إلى القرية بسبب الإفلاس..‏

عندما أراكِ ونخوض غمار الشروح والتفاصيل.. أتمنى في كل لحظة أن أقطع الحديث باقتراب مشبوه منكِ..‏

أخشى أن يأخذنا الحديث.. أريد أن أحيا.. أريد أن نحيا..‏

رومانسية.. مادية.. واقعية.. وكما تشائين..‏

لكن..‏

دعيني أحيَ.. دعينا نحيَ.‏

لا أستطيع أن أدعي أن السنديان لا يتراجع أبداً.. طالما أبكاني الفأس والمنشار وهما يقطعان الشوامخ التي اعتقدتها أقوى من الرياح.. منذ أسقط «الشرقي» سنديانة أبي مالك، اعتدت أن أرى دماء الأشجار العتيقة الباسقة.. وكبر بي الزمان وأنا أرى السنديان يتابع تقهقره أمام غراس صغيرة أو أشجار ضعيفة.‏

رغم ذلك كله يحزنني مشهد تراجع غابة السنديان التي كانت تشهد كرنفالات الاحتفالات الشعبية.. الرابع.. الميلادية.. الخ..‏

غابت منها الظلال التي تخيم على الأرض من كل جانب فتصنع ظلمة كافية لحجب من تحتها عن العيون.. قلموها.. نوروها.. وشقوا فيها طرقات.. وأنشؤوا موائد للطعام وملحقاته.. شيء لافت يملأ البعض بالدهشة ويملأ آخرين ممن عرفوا ذاك التاريخ بالاستهجان والقرف..‏

< لا رابع بقي ولا ميلادية..‏

- كيف يحتفلون إذن؟‏

< كل يغلق بابه ويحتفل داخله..‏

- وحده؟‏

< ربما مع بعض الأصدقاء.. يغنون.. يشربون..‏

كررت العبارة صامتاً.. «كل يغلق بابه ويحتفل داخله».. كم تغيرت الدنيا.. النقيض تماماً.. كنا «كل يخرج من بيته إلى الفرجة».. الرابع.. الميلادية.. عرس.. خطبة.. أي شيء.. من بيوت صغيرة ضيقة عاجزة عن أجواء الاحتفال نخرج.. والطبيعة أرحب وأجمل.. غابات وطرقات وبشر كل يعيش ساعاته كما يهوى.. كأنه الحلم.. ولا بد أن ينكسر إن أغلقنا على أنفسنا الباب..‏

< كل شيء متوفر داخل البيوت.. والتلفزيون ينقلك إلى العالم..‏

- التلفزيون يضحك علينا.. يتنقل هو ونبقى جالسين..‏

< يعني الرابع يأتي إليك بدلاً من ذهابك إليه؟!.. ما نحن فيه رائع..‏

- رائع.. أين الروعة..؟!‏

< أريح..‏

- لكن الروعة لا تأتي بالراحة.. الحركة بركة ومتعة واكتشاف وروعة..‏

< يا أستاذ مضى زمن الرابع.. ولقاءات الشباب والصبايا بين حنايا الغابات وتحت ظلال الأشجار الكثيفة.. الآن يلتقون على الانترنت والهواتف والخلويات.. وعندما يصلون إلى بعضهم يكون كل شيء جاهزاً.‏

صحيح.. عليّ أن أعترف.. ليس الحب كل شيء في الحياة.. ولم يكن كذلك.. وليست الاحتفالات الشعبية الطريقة الوحيدة للقاء.. ألم ينس جابر الصبية التي راح يتبعها من رابع إلى رابع عندما ركب تلك «الشيفروليه».. أمضى نهاره ودفع كل ما معه وهو يذهب ويعود بين رابعي «السخابة» و«الشيخ غريب».. مذهولاً بمتعة الشيفروليه الخرافية.. ربع ليرة وراء ربع ليرة.. لم يبق معه ولا قرش.. فإن صادف التي جاء يتبعها لن يجد في جيبه ما يحلي به فمها... وقفل عائداً إلى قريته..‏

يجب أن أعترف بالتقدم والحضارة.. قال لي عادل منذ 35 عاماً: رومانسيتك تدعوني للقرف..! كيف تزعم أنك مادي؟!..‏

ما معنى مادي؟ ما معنى رومانسي؟.. أنا أحيا.. أحب الطبيعة.. الغابات... الطرقات.. الظلال.. المياه.. الطيور..‏

البحر - رغم تحديه الدائم لي - أهذه رومانسية أم مادية؟!‏

يقول بابلو نيرودا: «حبيبتي.. نحن نحب.. يعني أننا رومانسيان..»‏

سألت سلوى؟.. ماذا يعني أننا رومانسيان.. قالت: يعني أننا واقعيان.. وماذا يعني أننا ماديان.. شرحت وكأنها قالت الشيء نفسه..‏

يجب أن أطالع.. أقرأ .. عيب أن أسقط في المادية والرومانسية..‏

أنا وسلوى وتخيلته الحب.. ومعه تفاهمت مع المادية والرومانسية.. بل حفظت أيضاً تعابير أخرى: الواقعية... البراغماتية.. وأشياء أخرى..‏

أنا لا أتخلى عن شيء حفظته.. أحب ما أحفظه ولو كان كريهاً..‏

لكن.. عند عينين لسنونو جميل هتف قلبي..‏

أحببت نسمة عند زاوية الفم.. ومرة أخرى سقطت في الرومانسية.. وفشلت توبتي.‏

عدت أعدو وقد تقدمت بي السنون بين الجبال والوديان.. أعشق المفارق والطرقات.. أراقب الزهور والثمار.. وأجدك في كل شيء.. وحين لا تكونين أكون بانتظارك..‏

لن أسمح للستين أن تقعدني.. سأقاوم..‏

عندما سألني القرحيلي: لماذا عدت من «الرابع» والدنيا بعد الظهر، حيث المحتفلون يعودون بعد الغروب.. لم أجبه واستهجنت استفساره وهو الذي لم أره في احتفال مطلقاً.. لا يحتفل ويشجع الناس على الفرح والذهاب إلى الفرجة.. أقعدته السنون أعني أقعدت جسده البدين..‏

أبي أيضاً.. لا يذهب إلى الفرجة.. قليل جداً.. فقط.. عندما يحتفلون بعيد الوحدة كان يذهب ويدبك كي يغطي على انتمائه للحزب السوري القومي.. هو لا يخاف عادة لكنهم خوفوه..‏

عندما رآني بعد ظهر ذاك اليوم، استهجن وقال:‏

< ما الذي عاد بك؟!‏

- ضجرت..‏

< ضجرت من الفرجة وعدت ولا أحد في القرية كلها..‏

غمغمت.. مقرف ما بي.. سقطت المادية.. إذ لعبت على حبة الزهر وخسرت «الخرجية» كاملة.. وعدت إلى القرية بسبب الإفلاس..‏

عندما أراكِ ونخوض غمار الشروح والتفاصيل.. أتمنى في كل لحظة أن أقطع الحديث باقتراب مشبوه منكِ..‏

أخشى أن يأخذنا الحديث.. أريد أن أحيا.. أريد أن نحيا..‏

رومانسية.. مادية.. واقعية.. وكما تشائين..‏

لكن..‏

دعيني أحيَ.. دعينا نحيَ.‏

a-abboud@scs-net.org

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية