تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


تفكيك أنظمة المعارف

ملحق ثقافي
5/5/2009م
عقبة زيدان

مرة سُئل ميشيل فوكو: ماذا ستكتب بعد الانتهاء من شرح تاريخ الجنسانية؟ أجاب: سأهتم بذاتي! مع أن فوكو في الحقيقة، لم يهمل ذاته يوماً، وكانت همه الأكبر.

لقد بدأ فوكو مبكراً حفرياته العميقة في المعرفة الإنسانية. كتب «تاريخ الجنون» و»مولد العيادة» و»الكلمات والأشياء» و»المراقبة والمعاقبة»، وفي هذه الكتب كلها، حاول فوكو التوصل إلى اكتشاف الذات، وتحولاتها.‏

ناقش فوكو حداثة التنوير، ووضع السؤال الكانطي في الواجهة: ما الأنوار؟ ليمارس عملية حفر على الحفريات الموجودة أصلاً في قلب الإشكال الكانطي. أراد أن يتعمق أكثر في الحفر، فربما يجد جزءاً من الحقيقة، ولكنه، في الواقع، وجد نقطة انطلاق نحو ما يسميه موقف الحداثة.‏

وأثناء قراءته لنص كانط «الأنوار»، يعترف: «يبدو لي أننا لم نعرف قبل اليوم فيلسوفاً مثل كانط في نصِّه هذا، حيث ربط بإحكام معنى تأليفه بالمعرفة.. يبدو لي التفكير بالراهن، بوصفه اختلافاً في التاريخ وسبباً لمهمة فلسفية خصوصية، بمثابة العامل الجديد في هذا النص». ومع تفاؤله بالكانطية وما قدمته، إلا أنه يعلن: لا أعرف إذا كنّا سنصبح راشدين ذات يوم. أشياء عدّة في تجربتنا تؤكِّد لنا أن حدث «الأنوار» التاريخي لم يجعل منّا راشدين، وأننا لم نصبح كذلك بعد؟!‏

هل الحداثة موقف أو مرحلة من التاريخ؟ في الرد على هذا السؤال يرى فوكو أننا نتحدث عن الحداثة بوصفها سمة عهد، أو مجموعة من الصفات المميَّزة لعهد ما ونثبتها على هذه الصورة في روزنامة تكون فيها مسبوقة بـ «ما قبل حداثة» شبه ساذجة أو بدائية، ومتبوعة بـ»ما بعد حداثة» مريبة وملتبسة.. وأعرف أننا نتساءل عندها إذا كانت الحداثة تشكِّل تتمة «الأنوار» أو تطورها، أو أنها قطيعة أو انحراف بالنسبة إلى المبادئ الأساسية للقرن الثامن عشر.‏

أثّر ميشيل فوكو تأثيراً كبيراً في فلسفة مع بعد الحداثة، واشتهر بتحليله للتقديم التاريخي للانحرافات العقلية والإجرامية والجنسية. وهذا التحليل، يوحي بمدى تأصل علاقات السلطة في التاريخ الذي أفرزته الحداثة. ولم يفترض فوكو - سلفاً - وحدة خطاب معين، طالما أن هذا ربما يكون افتراضاً لدوام الهدف. ويقول أوليفر ليمان: «فالذات ما بعد الحداثية - ومثالها فلسفة فوكو - هي ممارسة واعية بضرورتها وافتراضاتها؛ ممارسة واعية بحدة نظامية، تدرك كيف أن وجودها هو الذي يسلط الضوء على المعنى داخل التاريخ». إن التاريخ عند فوكو، يكتب دائماً في ضوء الاهتمامات المعاصرة، وهو لذلك فعال ومؤثر، بالمعنى الحرفي للمصطلح، من حيث أنه يحدث تغييراً في زمنه الخاص. ويقول فوكو معرفاً التاريخ: «التاريخ له مهمة أكثر من أن يصير وصيفاً للفلسفة، أن يتراجع عن الميلاد الضروري للحقيقة والقيم، ينبغي أن يصبح معرفة فارقة للنشاطات والقصور، للسمو والانحطاط، السموم والترياق. فمهمة التاريخ هي أن يصبح علماً شافياً».‏

حاول فوكو - حسب علي حرب - تفكيك أنظمة المعارف لتوسيع نطاق العقل والفكر. وكان غرض فوكو من وراء نقده للحقيقة تمديد حقل المعقولية. ويتابع حرب: «إن فوكو فتح الفلسفة على مناطق كان يرذلها العقل الفلسفي من قبل، كالجنون والسجن والجنس.. وهو إذ تناول العقل من خلال الاشتغال على هذه المؤسسات والممارسات والخطابات، التي كانت خارجة عن نطاق التفكير من قبل، فقد أتاح لنا أن نفكر فيما كان يستعصي على التفكير، وأن نعرف ما لم نكن نعرفه من أمر عقلنا. بذلك قدم فوكو مفهوماً جديداً للعقل، أقل تعالياً ونسقية أو أقل منطقية ومعمارية، ولكنه أكثر فاعلية وأقوى مفهومية». وبهذا يكون ميشيل فوكو - من خلال تنقيباته في خرائط الخطاب وعتمة الممارسات - قد حاول رؤية ما لم يره أهل الحداثة، وأن يفكر فيما استبعدوه من نطاق التفكير.‏

هناك ثلاث منظومات للإبعاد تمس الخطاب: الممنوع، وقسمة الحمق، وإرادة الحقيقة. وقد تحدث فوكو مطولاً في المنظومة الثالثة، لأنها تخترق السابقتين عليها، في مقابل أنها تتدعم وتتجه إلى أن تصبح أكثر عمقاً وأقل قابلية للإحاطة. ويقول فوكو: «هكذا لا تظهر أمام أعيننا سوى حقيقة واحدة، ستكون عبارة عن ثورة وخصوبة وقوة عذبة وشمولية بصورة ملتوية. ونحن في المقابل نجهل إرادة الحقيقة، كمجموعة آليات هائلة تستهدف القيام بعمليات الإبعاد كل أولئك الذين حاولوا تطويق الحقيقة ووضعها موضع سؤال ضد الحقيقة.. كل هؤلاء من نيتشه إلى أرتو إلى باتاي».‏

في هذا الكتاب (نظام الخطاب)، يطلق فوكو مصطلح (جمعيات الخطاب) على أي تجمع يهتم بتداول نوع معين من الخطاب، ويرى أن هذه الجمعيات تنجز وظيفتها بشكل مختلف جزئياً، وظيفتها هي الحفاظ على الخطابات وإنتاجها، ولكنها تبقي هذه الخطابات متداولة في مجال مغلق، ولا توزعها إلا وفق قواعد مضبوطة، وتجعلها محمية ومدافعاً عنها ومحفوظة ضمن جماعة معينة. وعلى عكس جمعيات الخطاب، يميل المذهب إلى الانتشار، بواسطة الاستعمال المشترك لنفس المجموعة الواحدة من الخطابات.‏

طبق فوكو منهجه الأركيولوجي في كتابه (الكلمات والأشياء) على مجموع العلوم الإنسانية، وقد حاول التحكم في هذا المنهج. ويدعو فوكو مجموع المقولات الموضوعية والشروط شبه المتعالية التي تتحكم في انفتاح وانسداد المعارف بـ (الأبيستمية) الخاصة بعصر معين. هذا ما فعله نيتشه بالمنهج الجينيالوجي، وهذا أيضاً ما فعله ماركس بالبنية التحتية. والاثنان - ماركس ونيتشه - حفرا تحت السطح. ويرى فوكو - ذلك المفكر الذي جهد وهو يحفر في المعرفة الإنسانية - أن الفكر والخطاب لا يشكلان التجلي المحض والخالص لما نعرف، بل يشكلان المجال الذي يمكن أن تتولد فيه كل معرفة.‏

تظهر نيتشوية ميشيل فوكو جلية في كتابه (تاريخ الجنون)، فهو يبحث عن حقيقة للإنسان خارج القسمة القائمة بين العقل واللاعقل. ويؤكد بأنه يجب قتل الإنسان من أجل إيجاد الإنسان الأعلى، من أجل خلق إنسانيته باستمرار. يجب أن يتحدث الجنون، رغبة في امتلاء الأنا، لأن الجنون يبتدئ بالضبط عند النقطة التي تضطرب فيها علاقة الإنسان بالحقيقة. ويقول جان لاكروا: «فيما أن الجنون قد أبعد ونفي، فإنه يجب احتجاز المجنون، إذ لم يعد له مكان ضمن مجتمع الناس الأحرار. ولو أن سيرفانتس كان ما يزال على قيد الحياة، لتم احتجازه. فالاحتجاز فعلاً مقولة حقيقية من مقولات العصر الكلاسيكي».‏

الحقيقة في نظر فوكو هي من هذا العالم، وهي ناتجة بفضل عدة إكراهات، وتمتلك فيه عدة تأثيرات منتظمة مرتبطة بالسلطة. إن لكل مجتمع أنماط خطاب، يستقبلها ويدفعها إلى وظيفتها كخطابات صحيحة، ولكل مجتمع الآليات والهيئات التي تمكنه من التمييز بين المنظومات الصحيحة والخاطئة. فالحقيقة متمركزة في شكل الخطاب العلمي وعلى المؤسسات التي تنتجه، وهي خاضعة لنوع من التحريض الاقتصادي والسياسي الدائم.‏

أين دور المثقف من إنتاج الحقيقة؟ إن المشكل الأساسي بالنسبة إلى المثقف، ليس في أن ينتقد المضامين الأيديولوجية التي قد تكون مرتبطة بالعلم، ولا أن يعمل بحيث تكون ممارسته العلمية مصحوبة بأيديولوجيا صائبة، بل أن يعرف ما إذا كان من الممكن إنشاء سياسة جديدة للحقيقة «إن المشكل ليس في تغيير وعي الناس، أو ما يوجد في أذهانهم، بل في تغيير النظام السياسي والاقتصادي والمؤسس لإنتاج الحقيقة». ولا يتعلق الأمر بتخليص الحقيقة من كل منظومة سلطة، فهذا وهم، لأن الحقيقة ذاتها سلطة، بل بإبعاد سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة التي تشتغل داخلها إلى الآن.‏

يتضمن هذا الكتاب (نظام الخطاب) أربعة فصول، جاء الفصل الأول تحت عنوان (نظام الخطاب) وهو درس افتتاحي ألقاه ميشيل فوكو في الكوليج دو فرانس في الثاني من كانون الأول 1970. أما الفصل الثاني فجاء تحت عنوان (نسق فوكو) وهو دراسة بقلم برنار هنري ليفي. والفصل الثالث تحت عنوان (الحقيقة والسلطة) وهو حوار مع ميشيل فوكو أجراه م. فونتانا ونشر في مجلة القوس 1977. وأخيراً جاء الفصل الأخير تحت عنوان (دلالة الجنون في فكر ميشيل فوكو) بقلم جان لاكروا.‏

الكتاب: نظام الخطاب‏

الكاتب: ميشيل فوكو‏

المترجم: د. محمد سبيلا‏

الناشر: دار التنوير، بيروت‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية