تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«البدلة» لـ نائلة الأطرش الخيانة ليست وجهة نظر

ملحق ثقافي
5/5/2009م
ماهر عزام

ماذا لو تحول فعل الخيانة الزوجية إلى دمية حقيقية تعيش داخل البيت حيث يفرض الزوج على الزوجة الخائنة أن تطعم الدمية وتعطيها مساحة في فراش الزوجية الثنائي ليغدو ثلاثياً؟

‏‏

هذا هو المحور الرئيس في رواية البدلة للكاتب الجنوب أفريقي كان ثيمبا وقد أعدتها للمسرح وأخرجتها المخرجة المتميزة نائلة الأطرش..‏‏

المسرح داخل المسرح‏‏

هناك في مدينة صوفيا تاون بالقرب من عاصمة جنوب أفريقيا جاهانسبرغ حيث تتعايش العديد من الانتماءات الدينية والاجتماعية، يعود الزوج إلى بيته بناء على إشارة من أحد أصدقائه بأن زوجته تخونه، فيهرب العشيق من النافذة بثيابه الداخلية، تاركاً بدلته على الكرسي.. مأزق للزوج الذي لا يريد أن يصدق حيث يحب زوجته ويقدم لها كل ما تريد عاطفياً واجتماعياً وإنسانياً.. وهو مأزق للزوجة التي لم تجد مبرراً لفعلتها.. نحن أمام مثلث الغرام الشهير والذي قدم في المسرح والرواية والقصة مئات المرات..فما الجديد هذه المرة؟‏‏

‏‏

المؤكد أن معالجة مثلث الغرام تعكس الرؤيا العميقة للكاتب والمتميزة عن سواه.. ويبدو أن طريقة معالجة موضوع الخيانة ومثلث الغرام في الرواية لفتت أهم مخرج مسرحي في العالم، وهو بيتر بروك، حتى قام بتحويل الرواية إلى عرض مسرحي قبل ثماني سنوات ضمن اهتمامه بمسرح السود، حيث سجلت المسرحية أغرب إعلان في تاريخ المسرح عندما طبعت على لوحة الإعلان عن المسرحية (البطاقات نفدت إلا ست تذاكر مخصصة للفائزين في مسابقة المعلومات المسرحية بالإجابة عن الأسئلة الآتية..الخ)‏.‏‏

الخيانة على شكل بدلة‏‏

وتقوم معالجة الكاتب لفكرة الخيانة بأن قام الزوج بالإبقاء على البدلة مكوية وكأنها جاهزة للارتداء في أي لحظة، لا انتظاراً لعودة صاحبها، إنما معادلاً مادياً لفعل الخيانة، تقبل الزوجة بأن تطعم البدلة وتنظفها ويبدأ الإيقاع بالتصاعد عندما يطلب الزوج من زوجته أن ترافقهما البدلة إلى السوق والتنزه، ومع ذلك لا يسع الزوجة إلا أن توافق لا بل تبدأ بالمشاركة في الأنشطة الاجتماعية للمدينة مشتكية من الروتين الذي يغلف حياتهم..إلى أن تقرر إقامة عشاء عام، حينها يصر الزوج على أن تعامل البدلة أمام الجميع كأنها كائن حقيقي.. ومع خروج الزوج من البيت مع أصدقائه وقد أنهكه الشرب يعود ليجد زوجته ميتة.‏‏

‏‏

بريشت الحاضر الغائب في الإعداد المسرحي‏‏

قدمت المخرجة العرض وفق مستويين من الحكاية الأول يقوم على الروي من قبل الشخصيات للأحداث سرداً أو التعليق عليها بوصفهم ممثلين، والمستوى الثاني تمثيل الحكاية درامياً.. المستوى الأول استخدمت فيه نائلة الأطرش اللهجة الفصحى والمستوى الثاني اللهجة العامية.. هذه المباعدة بين المستويين تحيلنا إلى تقنية المسرح داخل المسرح.. وهي أسلوب بريشتي يهدف إلى جعل المتلقي في حالة وعي تام لما يقدم أمامه فلا يغرق في تفاصيل الحدث، الأمر الذي يرفع من جرعة التحليل أثناء فعل المشاهدة فلا يتعاطف المتلقي مع هذه الشخصية أو تلك.. وترافقت هذه التقنية مع كشف كل كواليس الفعل المسرحي، فما نراه على الخشبة هو ما يجري في العرض.. لا إخفاء ولا إيهام.. ولكي تؤكد المخرجة على كشف كل الأدوات المسرحية لجأت إلى الأسلبة في استخدام الفضاء المسرحي المتقشف بالاعتماد على سينوغرافيا (لبيسان الشريف) يقوم على خلق أعراف مسرحية سواء في استخدام قطع الديكور السرير.. البراميل.. الكراسي والنوافذ المتحركة.. أو الأغراض من أدوات مطبخ متنقلة على إطار معدني..‏‏

هذه التقنية في التقشف والتبسيط للعديد من العناصر المادية على الخشبة هي محاكاة لطريقة تفكير الزوج البسيط في سلوكه والواضح في أسلوبه..كما أن هذه الرشاقة في تحريك قطع الديكور والأغراض هي انعكاس لرشاقة الزوجة الجسدية بتنقلها من زوج إلى عشيق إلى زوج..‏‏

‏‏

وإذا كنا قد شاهدنا في بداية العرض مشهداً يشتكي فيه سكان المدينة من الرتابة والتكرار الممل للعادات اليومية، إلا أن استخدام الأغراض المسرحية ينفي هذه الرتابة وكأن حركية الأغراض وقدرتها على أن تعطي أكثر من معنى هي إنكار لما يقوله الناس.. فثمة رشاقة وتعدد في العادات اليومية.. أقول هذا لأنه قد يختلط الأمر على بعض المتفرجين بأن يبرروا للزوجة فعل الخيانة بما قالته على الخشبة من أنها أرادت أن تخرج من التكرار والملل..‏‏

الممثل أداة أم هدف؟‏‏

تعتمد المخرجة نائلة الأطرش على الممثل بقدر ما تعتمد على الفكرة الاستثنائية في النص.. فالممثل لديها هو الحامل الأول والأخير لجوهر الفعل المسرحي.. وفي هذه المسرحية شاهدنا أربعة ممثلين استوعبوا جيدا البنية العميقة للنص، بحيث لم يخرج الأداء عن نسق الإخراج.. فجمال سلوم الصديق والراوي الأول طغى على نمط الحركة لديه شكل الرقص الإفريقي المنسجم مع الجو الخارجي للنص لكنه كان أيضا ممثلاً للصديق الواشي والفاضح للزوجة.. هذا الدور لم يجعله شخصاً مغرضاً إنما حاملاً لفعل التحول والكشف في السياق الدرامي للحكاية.. في حين ظل هاني الأطرش دوراً ثانوياً وغير متمايز لا في النص ولا في الأداء.‏‏

شادي مقرش الزوج ومحور العرض اعتمد في بنية الأداء على التعبير الوجهي حيث أن دوره يعتمد بشكل كلي على الكلام.. رغم أن دوره المركب بين الزوج المتسامح ظاهرياً والمنتقم ضمنياً يرشّحه لأن يصعّد الأداء نحو ثنائية متناظرة، كأن يحمل الأداء ازدواجية قابلة للتأويل أكثر مما بدا أداؤه واضحاً ومباشراً وأحادي البعد، وهذا ما لا ينسجم مع أسلوب الإخراج البريشتي في أحد مستوياته.‏‏

‏‏

أما ريم زينو الزوجة فقد منحت الدور الكثير من الحيوية مع الاحتفاظ بقدر واضح من الأداء المسرحي المؤسلب. ولم تعط المتلقي أي فرصة للتعاطف الإنساني مع فعل الخيانة حيث ظلت على مسافة من الدور مترافق مع جهد واضح في نقل أبعاد الشخصية المسرحية ضمن سياق الحكاية كجزء منها وليس العنصر المركزي فيها.. وهذا يعود لطريقة معالجة المخرجة للنص بحيث قدمت الشخصيات لا كحالات استثنائية إنما كتفاصيل لحالة استثنائية هي المسرحية ككل.‏‏

سؤال ما وراء العرض‏‏

إن تماسك العرض نابع من وضوح الرؤيا الإخراجية التي تحاشت كثيراً الوقوع في مطب مناقشة فكرة أخلاقية (دينية أو اجتماعية في أحد أبعادها) على خشبة المسرح وذلك بهدف تصعيد الفكرة والغوص فيها عميقاً باتجاه التعاطي مع فكرة الخيانة كموقف من الذات لا كخلل اجتماعي.‏‏

‏‏

نائلة الأطرش عبر هذا العرض تلتقط تفصيلاً عميقاً في الشخصية يتماس مع فكرة الانتقام والمقدرة على الغفران والتسامح. لكن عبر سؤال خطير هل يمكن لمن يخون أن يتعايش مع فعلته كشيء عادي..؟ وهنا يبدو لي أن مفهوم الخيانة في العرض ليس محدداً في الخيانة الزوجية إنما قابل للامتداد نحو مساحات أخرى لمفاهيم عديدة.. لكن السؤال هنا هل يمكن أن يترك الخائن للزمن كي ينتقم منه..أو يترك لضميره كي يأكله من الداخل؟‏‏

سؤال ينتظر الإجابة عبر عرض جديد نتمنى أن نراه بتوقيع المخرجة الأكثر أهمية في المسرح السوري حالياً.. خاصة وأن هذا العرض سجل عودة نائلة الأطرش إلى المسرح القومي.‏‏

تصوير: عماد جلول‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية