|
ملحق ثقافي والنقد معياري بالضرورة، لأن العقل والذائقة اللتين تنتجانه معياريتان، فالعقل لا يقبل إلا ماله قيمة، والعاطفة لا تهتز، إلا لما هو جميل ومثير للبهجة، وأعلى مستوياتها المتعة الجمالية التي تتأتى من الصناعة الفنية، فلا أدب بلا فن.../لذة النص/ المتولدة من القطب الفني، والقطب الجمالي. غاية النقد، إصدار الحكم، حتى النقد الوصفي الذي يكتفي بالتوصيف ويبتعد عن إصدار حكم القيمة، يحتوي حتماً أحكام قيمة ولو بشكل غير مباشر، هذا الحكم لا يمكن –نظرياً- أن يكون مجرداً /موضوعياً/ لأننا نقارب أعمالنا بتحيز مسبق، تمليه علينا ثقافتنا المشكلة لذائقتنا، وهي بدورها منجز /تاريخي معرفي اجتماعي/ وفهمنا للأشياء والإبداعات برمتها مسبوق بتحيزات التقليد، لأن عملية الفهم والتذوق هي عملية دائرية من المراجعة المستمرة، نحن أسرى لثقافتنا ويجب التحرر من أسرها باستمرار.. بتنوع مصادرها وتعدد مرجعياتها. لقد حاول النقاد والمفكرون /البنيوية/ إبعاد النقد عن الذاتية المفرطة والاقتراب به من العلم وصياغة قوانين ونظم وتقاليد، تجعل منه علماً، يعني ذلك تجريده من الذاتية /الشخصانية/، ولما كان الأدب تواصلاً بين روحين، فشلت كل المشاريع الفكرية التي تغيب الذاتية لصالح الموضوعية، وتضع ذاتية الأديب، مقابل موضوعية الأدب، متناسية أن العلاقة بين الذات والموضوع قابلة للانزياح وتبادل المواقع... فالأدب ذاتي وموضوعي، خاصة أن مادته اللغة بوصفها إنتاجاً اجتماعياً تتعين بخصائص الأفراد المتحدثين بها. وبما أن حكم القيمة معياري، تنشأ مشكلة المعيار أو المعايير، هل هي ثابتة أو متغيرة، ومن الذي ينتج المعايير والسنن، هل هم النقاد أو النصوص الأدبية؟ النص في الوجود والتشكل أسبق من النقد، يأتي النقد لاحقاً، وهذا لا يعني التبعية، هناك حيز من الاستقلال، بعد تكديس النصوص /عملية الإنتاج الأدبي/ يمكن استنتاج القوانين الداخلية الناظمة لها... ولكن قد يتقدم النقد على النص ويصبح موجهاً له... وهنا علينا أن نعترف أن الإنسان /الناقد/ يحدد السنن ويكتشف القوانين وهي متغيرة بتغير الوقائع والطبائع والبشر، وبالتالي خاضعة لحركة التاريخ والمجتمع ووجهة النظر المهيمنة. النصوص منتجة للقوانين والنقاد يقومون بعملية كشفها وتعميمها. تبرز المشكلة عندما نتناول نصاً لكاتب مبتدئ.. كيف سنصدر حكمنا عليه؟ وما هي الآليات المتبعة لذلك؟ اختلاف الإنساق والبنى المنتجة للنصوص. لا يجوز للممارسة النقدية أن تسقط من تطورها التاريخ والجغرافيا والنسق الثقافي والذائقة السائدة، ولابدّ من موضعة الإنتاج الأدبي /النص/ وموقعته ضمن تاريخ جنسه، أي لابد من مقارنته بما أنتج من نصوص محايثة أو سابقة، محلياً وعربياً وعالميا... وهنا المشكلة الأهم... التداخل والتشاكل بين القيمة الفنية والحكم الأخلاقي، أو العكس... فنياً علينا أن نقارن هذا النص /المنتج/ بما سبقه من نصوص تنتمي إلى جنسه، فإذا أضاف النص جديداً /قيمة ما/ على أساس (يجب أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون) والانتماء إلى تاريخ الجنس، والإضافة تكون إليه... يحكم على النص بما أضافه، وهذا يستدعي معرفة تاريخ الجنس وتداخل الأجناس وتطورها، وتغير العناصر المكونة لها، ثم الإضافة الشخصية لخصائص الجنس وآخر ما استقر عليه بناؤه... فتاريخ الإبداع هو الإضافات والتجاوزات /الاختراق الفني/ وليس التماثل وإعادة الإنتاج، أهمية النصوص فيما تضيفه على ما سبقها وليس في تكرارها وإعادة إنتاج اللاحق للسابق منها... هذا هو المعيار الفني، وهو صحيح ولا مفرّ منه، لكن من الناحية الأخلاقية، لابد من التريث والتبصر، قبل إصدار الحكم، الذي يشبه حكم الإعدام تحديداً على النصوص الوليدة والكتاب المبتدئين. النصوص تنتج في سباقات اجتماعية وتاريخية وثقافية متباينة وأحياناً متغايرة، وهذا يعني كثيراً من الظلم عندما نقارن نصاً بنص آخر، أنتج في سياق مختلف، الدول التابعة مثلاً... العلاقة بين المركز والأطراف، المتن والهامش... والمراكز منتجة للقيم ومصدرة لها، وهي ليست بالضرورة القيم الوحيدة والسيرورات الضرورية... /المركزية الأوربية/ وما يصدر عنها من إنتاج أدبي ونقدي... ليست قيماً معيارية أبدية. ثمة من يقول وهو على حق: الأدب اختراق للمألوف وعندما نتحدث عن الفن /أدبية النص/ لا نُعنى بالخلفيات المنتجة له، والناقد لا يهتم بانتماء المؤلف الجغرافي والثقافي، كما أنه ليس معنياً بموقع عمله من تجربته، وإنما بالقيمة الفنية لمنجزه النصي... وفي هذا التناول والحكم الصادر عنه، تجاهل لشروط إنتاج النص وظروف تلقيه /علاقة الخارج بالداخل/ ومفهوم البنية والنسق فكيف يمكن مقارنة بنية متقدمة بكل انساقها مع بنى متخلفة في أنساقها وبالتالي في بنيتها. مع توسع شبكة الاتصالات، وثورة المعلومات وظهور الانترنيت /العالم قرية صغيرة/ ليس ثمة ما يبرر لكتاب الأطراف والهوامش، عدم الاطلاع على المنجز الإبداعي العالمي وتمثله والاستفادة منه... وفي الواقع العملي فقد قدمت الهوامش والأطراف إنجازات فنية أدبية لا تقل أهمية وقيمة عن إنجازات المركز، لا بل هناك حركة من الهوامش لتحديد مكانة المراكز نفسها... على كتابنا بذل المزيد من الجهد والاجتهاد والعناء، والبعد عن الاستسهال الذي نلمسه في كتابة كثير من النصوص، على الكاتب أن يعي خطورة عمله من الناحية الفنية، فهو ليس معزولاً عن المنجز العالمي، وتخلف نسقه لا يبرر تقصيره الفني... ومع هذا من الظلم المقارنة بين نمطين معرفيين، وبين مكونات ثقافية متباينة وبين أنساق مختلفة على ما بينها من هموم ومشاغل مشتركة... وحدة المصير الإنساني، والارتقاء الفني بالذائقة العامة للمتلقين /المحلي والكوني/، القيمة الأخلاقية والحكم الفني، لا يجوز بحجة القيمة الأخلاقية، التساهل بالقيمة الفنية، /فالأدب شكل/ وصنعة ومهارة وتقانة وخبرة وتجربة، وعلى الكاتب أن يتقن صنعته، وكذلك على الناقد أن يتسلح بأحدث منجزات العلم والمعرفة وأن يلم بأكثر من حقل معرفي في زمن تتجاور فيه وتتداخل الحقول... وعلى الناقد ألا يتساهل فيعلي الأخلاقي على الفني /لأنه يساهم بإفساد الذوق ويساعد على ترويج الرداءة، عندما يساوي بين الوضيع والرفيع /فنياً/ وفساد الذوق العلة الكافية لكل انحطاط. على الناقد محاربة الغوغائية، والابتعاد عن الأحكام المتسرعة التي تفسد الذوق وتشوه الوجدان... عليه أن يحارب الوعي الفني الزائف الذي لا يخدم لا النصوص ولا القراء... يبقى الزمن هو القيمة المعيارية العليا، وهو الناقد الحقيقي للنصوص... والانتشار ليس حكم قيمة على النصوص، فقد يكون سببه خارج النص وبعيداً عن فنيته، كخروجه عن المألوف الاجتماعي أو الديني أو السياسي /المحرمات الثلاثة/ مما يسهل انتشاره وتداوله بين القراء... القيم متغيرة، والمعايير ليست ثابتة، على الناقد أن يكون حذراً في إطلاق الأحكام وأن يلتقط الحد الفاصل والدقيق بين الثابت والمتحول من القيم والمعايير. |
|