تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إشكاليات الثقافة والمثقف

معا على الطريق
الأربعاء24-7-2019
أنيسة عبود

ليس خافياً على أحد أن المشهد الثقافي السوري تعرض لنكسة كبيرة بسبب ظروف الحرب وما نتج عنها من مظاهر سلبية طالت كل قطاعات المعرفة والفكر والفنون وأجبرت الكثير من الأدباء على الصمت والتوقف عن إنتاج المعرفة

لأن ما يجري في الواقع وما تشاهده العين فوق طاقة الاحتمال وفوق شطحات الخيال .‏

فقد تأثر إنتاج المعرفة، وتعطلت حركة الكتاب وتخدرت الأخيلة وصمتت الأفكار أمام صوت الرصاص الذي كان الأعلى ..ولأن محابر السواطير كانت البديل لمحابر القلم.. ما أدى إلى تحول المشهد الثقافي والأدبي إلى مشهد خامد، روتيني لا حراك فيه، وحتى إذا ما أقيمت بعض الندوات والمهرجانات لكسر الجليد المزمن .. إلا إنها تبقى في إطار المظاهر الشكلية والمشهديات السريعة والآنية، والتي لا تؤسس لحراك فعلي يمكن أن يخلخل سطح السكون ويغير من زاوية الرؤيا ..وشيئاً فشيئاً همدت الفورة الثقافية والأدبية التي كانت تتأجج في سورية وتتصاعد إيجابياً إلى ما قبل الحرب أو الأزمة فكان هناك شهوة عارمة من بعض رجال المال والأعمال لإصدار جرائد ومجلات ثقافية خاصة، وقد بدأت بالفعل عدة مجلات منوعة بالصدور والوصول إلى المكتبات العامة آخذة بعين الاعتبار التمويل والتوزيع .وكان لافتاً و مشجعاً الاستثمار في المجال الثقافي والأدبي .‏

لقد كان الشباب السوري في تلك الفترة متحمساً للكتابة،وكانت هناك تجارب عديدة جيدة .. وفي الوقت الذي بدا أن انطلاقة أدبية وثقافية ستقوم في البلد، جاءت الأزمة، وألقت بثقلها على الراهن، فخمدت الرغبة، وغيرت كل الخطط والتوجهات الأدبية وماتت الدهشة لدى المثقف لأن الواقع تجاوز الخيال بكثير .. فكانت كل كتابة هي ترجيع للواقع ونسج على نوله أو مشابه له .فلم يعد النص حاملاً للنبوءة أو للخيال والفانتازيا ..لأن أكل الأفئدة يفوق خيال أي كاتب في العالم ..ولأن السبي ووضع البشر في أقفاص وعرضهم في سوق دوما تفوق أشواطاً على القلم وعلى الخيال الأدبي ، لذلك صمت الكاتب، وصار كأنه ما كتب من قبل ولا يقدر أن يكتب من بعد.‏

وكما أصاب الحصار سورية اقتصادياًودمرها مادياً من كل النواحي، كذلك ألحقوا بها حصاراً ثقافياً وأدبياً .. توقفت على أثره المجلات التي كانت تدخل البلد وتوقفت الجرائد وقطع عنها البث الفضائي من جهات عديدة، كذلك توقفت دعوة الكتاب والمثقفين للمشاركة في ندوات ومهرجانات أدبية دولية وعربية .. ورفضت دعوات كثيرة لأنهم لم يمنحوا تأشيرة للكاتب السوري القادم من أرض النار، بينما سهلوا هذا الأمر على الكاتب الذي هرب والكاتب الذي شتم، واختلط المبدع بغير المبدع .. فطفت على السطح طبقة من الأشنيات الأدبية التي ادعى ( أشباه النقاد في الخارج ) بأن هذه الأشنيات هي التي تمثل الأدب السوري العملاق الذي أثرى المكتبة العربية ..فضلاً عن محاصرة الكتاب إذ لم يعد الكتاب السوري يخرج أبعد من حدود سورية بعد أن منعوا الناشر السوري من المشاركة في معارض عربية ودولية،فغاب الكتاب السوري، وغاب الأديب عن التفاعل مع القارئ .ما أدى إلى الإحباط عند البعض وتوقف الرغبة في التأليف والنشر عند البعض الآخر ..وخاصة بعد شعور المثقف السوري أن الثقافة لم تثمر في جيل طويل عريض ترك العلم والمعرفة وتوجه إلى مدارس التطرف والتخلف التي تعلم الذبح والتقطيع والغلي بالزيت وتدمير ما بناه الآباء والأجداد وتحطيم كل الرموز الإنسانية والأخلاقية، وكأن هذا الشعب لا يرتكزعلى حضارة إنسانية عريقة وأبجدية عظيمة وإرث معرفي وديني منذ آلاف السنين .‏

وكما دمرت الحرب البيوت والمصانع والمعامل وحرقت حقول القمح والقطن ونهبت خيرات سورية .. كذلك دمرت الفكر والمعرفة وجعلت الكتاب فائضاً عن الحاجة، والكاتب لا مكان له في مجتمع يغلي بالتبعية الطائفية والقبلية .‏

ومع كل الجهود المبذولة من بعض المهتمين بالفكر والأدب ..إلا أن الحال الثقافي والأدبي ليس على ما يرام، فاتحاد الكتاب مؤسسة منغلقة على حالها وكأنها دويلة ضمن دولة الثقافة .. وعلى نفس الوتيرة وزارة الثقافة ووزارة الإعلام، حيث يدفع الكتاب وحده الثمن في معمعة الجهل والتخلف والرصاص القاتل حتى للخيال .‏

وحقيقة الأمر، الكاتب السوري يعاني من حرب مع ذاته المبعثرة وسط جحيم الحصار ومع حروفه التي لم تستطع الخروج من قفص الاتهام بالصمت أو بالتقصير والانحياز إلى جهة ما ..وكأنه (أي الكاتب) بلا جهات وبلا ظلال تغرّب مرة ..ومرة تشرّق، ويبقى الزمن وحده كفيل بمنح صك البراءة للجميع .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية