تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بعض تفاصيل الأمس وأبجدياته?!

آراء
الاثنين 18/8/2008
د. محمد الراشد

كان ذلك في أفق تسعينيات القرن الماضي..يومها كنت في الربوع الدمشقية أشتم عبق التاريخ وأستلهم أريج الحضارات واسكر بفضاءات جنة الله في أرضه.

وإذا كان للعاصمة السورية حضورها الكوني وجمالها الأخاذ..فهذا لا يعود إلى الدفق العبقري الذي يواكبها فقط,كما أنه ليس ناتجاً عن روعة الطبيعة التي تحتضنها فحسب, وإنما لأسباب أخرى تعلن كل العقول البشرية عجزها الكامل من رصدها..ولهذا يجد علم الاحصاء نفسه أسيراً وهو في خضم تعداد خصائصها والإمساك بمواصفاتها.‏

ولهذا,حينما أتسكع في شوارعها أو استظل برياحين غوطتها,أجدني متوجهاً تلقاء الرؤية الاستعراضية للتاريخ,مفتوناً في البحث عن قدسية الوجود على مدارج الحق والخير والجمال عبر الدين والفلسفة والفن والقانون الكوني بدءاً من الإنسان والحيوان والنبات وانتهاء بفيزياء الفضاء.وبلا سابق تفكير وجدتني أمام مكتبة دار اليقظة العربية التي أغنت القارئ العربي بمنشوراتها وخاصة على صعيد الآداب الروسية كروايات فيودور ريستويفسكي وتولستوي وقصص أنطوان تشيخوف وغيرهم,فشرعت بقراءة عناوين الكتب المعروضة,وما هي إلا دقائق حتى اتخذت لنفسي مقعداً في مقهى الهافانا الذي ينسج لي أجمل الذكريات وعلى رأس الهرم منها تلك الجلسات العذاب مع العلامة زكي الأرسوزي رحمه الله,وما تخللها من إضاءات فكرية وأدبية وإضاءات فريدة من نوعها على صعيد عبقرية اللغة العربية وفقهها والتي لعبت دوراً لا يستهان به في رسم بنية التركيب النفسي لحياتي منذ منتصف ستينيات القرن العشرين وحتى يومنا هذا.‏

وفجأة لمست في مخيلتي صورة المفكر العربي الكبير الدكتور عادل العوا وأطروحاته التي يظللها تواضع العظماء وراحت تموج في ذاكرتي عبارة عصية على النسيان ما دمت أعايش الليالي والأيام وذلك في الواحد من حزيران عام ألف وتسعمئة وستة وستين.‏

قالها لي حينما كنت أبحر في عناوين كتاب(الفن والأخلاق) للمفكر الافرنسي شارل لامو الذي ترجمه عادل العوا وقدم لي نسخة مرصعة بإهدائه,فشكرته باسماً متسائلاً:كيف يتسنى لي الإمساك بخفايا سلطان الحب والخير والحق والجمال بدءاً من مفاهيم شارل لامو وتواصلاً مع كل ما سطرته يراع مفكري وفلاسفة مشارق الأرض ومغاربها يا أستاذي الحبيب?!!‏

فأجابني قائلاً:(إذا كانت فيزياء الصغائر هي الحجر الأساس لفيزياء الوجود فإن الكلمة أو المفردة اللغوية هي نسيج النص الأدبي والفلسفي ولحمته,ولهذا فإن الجرأة المنهجية هي اللبنة الصلبة في بناء العقل المبدع..والمعارف والعلوم هي حصاد الإنسان الفاعل في التاريخ,وحياده المعقلن بمثابة الجواد الذي يسابق به الريح..استمسك بهذه المنطلقات يا عزيزي لتكون قادراً على فهم وإدراك كل ما يمكن فهمه مما تقرأ وتسمع وترى).‏

وكان د.عادل العوا(رحمه الله) آنذاك يشغل منصب عميد كلية الآداب بجامعة دمشق ورئيساً لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية فيها ولكن ليس هذا هو المهم بالنسبة لي لأنني لم أكن طالباً في الكلية,وإنما المهم دفقه المعرفي وقدرته على ترويض لغة الضاد واستخدام مفرداتها في عالم الفلسفة وتوظيف كلماتها بمنتهى قدرتها الإيحائية.‏

فاتسمت كتاباته بثورة لغوية قادرة على بناء عقل القارئ وتمكينه من اختراق النص سواء أكان يدور في فلك فلسفة ما بعد الطبيعة أم الفن أم الحضارة أم عالم القيم..ولعل مؤلفاته ومترجماته خير شاهد على صياغته الفلسفية بأسلوب أدبي مميز,ولهذا فمن أهم أمنياتي اليوم إعادة قراءة بعض كتبه مثل:القيمة الأخلاقية-الوجدان-التجربة الفلسفية-معالم الكرامة في الفكر العر بي-أسس الأخلاق الاقتصادية-الأخلاق والحضارة-مذاهب السعادة.‏

ومن يومذاك,وأنا أسعى دائباً إلى استثمار وتوظيف توجيهات هذين العملاقين زكي الأرسوزي وعادل العوا ما استطعت إلى ذلك سبيلاً,حتى غدت بمثابة المحاور الأساسية في حياتي..وانطلاقاً من ذلك غدت نظرية الكتابة بالنسبة لي لا تستهدف البوح أو الاقناع ,كما لا تتطلع إلى رصد معاناة النفس أو التعبير عن معطيات الوجدان,وبالتالي لا تسعى إلى إرضاء غرور الأنا حيناً أو لتغطية مساحات موحشة حيناً آخر..وهكذا غدت الكتابة منطلقاً للإفصاح عما أشتم فيه أريج الحب والحق والخير والجمال أولآً,وللإعراب عن مكابدات الفرد والأمة والإنسان في كل مكان ثانياً.‏

أكتب لهذا وللاعتراف بأنني مدين لكل التخوم والجغرافيات التي احتضنتني أو حظيت بزيارتها,كما لكل الإنجازات التي أفرزت التفاصيل الحميمة بين الإنسان وأخيه الإنسان..أكتب بأسلوب ينتمي إلى الأمس البعيد بقدر ما ينتمي للحاضر السرمدي الذي ينسج صور المستقبل.من أجل ذلك تنتمي إنجازاتي المتواضعة إلى عهود صرفتها رياح الأزمنة كما تنتمي إلى أزمنة تحلم بالمخاض والولادة..‏

من أجل ذلك أراني مصمماً على القول :إن زحزحة المجتمعات البشرية عن مواقع أقدامها لإيقافها على شفا جرف هار تحت صدمات معالم الانهيار الأبدي لنظم اجتماعية منها ما كان محملاً بأزاهير الحضارة ومنها ما كان موغلاً في التوحش,كل ذلك من شأنه التأكيد على ضرورة تسطير الكلمة المسؤولة سواء قرئت أم لم تجد من يقرؤها على الإطلاق..ذلك لأن الكلمة المسؤولة حمالة للفكر والعلم والمعرفة وترسانة للوائح القيم..وهنا يكمن الحدس العبقري للأمم لأن العبقرية تجاوز لما هو كائن وحضور موعود بما سيكون.‏

ولهذا على الكاتب مناجاة الله والإنسان والعالم حتى ولو تسللت إلى نجواه صور رديئة وأحلام غير متجانسة واختراقات مشحونة بصحارى غير قابلة للحياة.‏

وهنا يتولد البحث اللاهث عن الينبوع الحالم..عن الجداول والأنهار التي تحول بيننا وبينها مساحات من الأرض اليباب التي أثخنتها جراح العصر..بدءاً من موجات الاستعمار وانتهاء بالتطهير العنصري القادم من العالم الغربي وانتهاء بجرثومة التطرف الديني الذي يفرز ترياقه السام في معظم الجغرافيات.‏

من أجل ذلك تتوالد مع كل صباح ومساء حسرات مؤلمة على لحظات السعادة المرجوة التي شحنها قطار الزمن الغادر مع نمو التقنية التي حققت مستنقعات آسنة لخواء الروح..فبالقدر الذي تنمو وتترعرع ورود البذخ وأزاهير الترف, بالقدر الذي تتهاوى لذات النفس ويضمر الوجدان وتتقلص معطيات الروح .‏

وهكذا ساهمت تفاصيل ملذات المترفين(وبروتوكولات) رخائهم بميلاد أزمنة تنذر بعاصفة قد تزلزل الحياة بأسرها على هذا الكوكب السابح في الفضاء.‏

وكما أن تفاصيل الملذات وأبجدياتها كتفاصيل الحب وأبجدياته تتوالد بلا ميقات.كذلك شأن عواصف الغد وزلزلة براكينه..قد تردعنا بلا ميقات كما قد تشيع جنازة الحياة بلا ميقات.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية