تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الأولوية للثقافة

آراء
الاثنين 18/8/2008
أ.د يوسف سليم سلامة

عندما ينصب الحديث على التكنولوجيا,فإن كل ما يخطر ببال المتحمسين لها,والذين يرون فيها دواء شافياً لكل أدواء التخلف,

هو التفكير في أنجح السبل لترجمتها إلى ما أطلق عليه اسم الثورة الصناعية والثورة الزراعية,فهم يرون أن من شأن الثورة الصناعية أن ترتقي بالعلاقات الاجتماعية من علاقات ريفية فلاحية إقطاعية إلى علاقات متطورة قائمة بين رأس المال والعمل المأجور(علاقات رأسمالية برجوازية).‏

وهم يرون أن الثورة الزراعية من شأنها أن تدخل الأتمتة ونظم الاستثمار الزراعي الحديثة إلى صميم الريف,فيتم الارتقاء به نتيجة لذلك إلى تحقيق قدر أعلى من التقدم والتمدن,وهذا القدر من التقدم والتمدن لا يسمح فقط بزيادة الإنتاجية الزراعية,وإنما هو أيضاً ييسر السبل إلى تعقيل حياة الفلاحين والارتقاء بها إلى مستوى العلاقات المنطقية والعقلانية بفضل ما تخلقه الآلة للفلاح من علاقات جديدة قائمة على مبدأ العلة والمعلول أو السبب والمسبب,بدلاً من أن تكون قائمة على المعجزة والخرافة والأسطورة,ومع الغيبيات بصفة عامة.‏

ولوعدنا إلى وقائع الحياة العربية في الخمسين سنة الأخيرة,لوجدنا أن قدراً من التصنيع وقدراً من التأليل في مجال الزراعة قد تحقق فعلاً.‏

غير أن ما يلفت الانتباه هو أن النتائج المتوقعة والفوائد المرتقبة لهذا التصنيع وذاك التأليل لم يتحقق منهما إلا القليل جداً,على الرغم من أن الإنتاجية الصناعية قد لعبت دوراً في رفع مستوى الحياة لبعض شرائح الشعب ,فضلاً عن أن التصنيع قد لعب دوراً إيجابياً في حماية البلاد من الإلحاق ووقوعها تحت هيمنة الخارج,وخاصة عندما تعرضت بعض البلدان العربية للحصار,وهو ما حدث لسورية في ثمانينيات القرن الماضي.‏

إذاً فلا شك في أن التكنولوجيا قد لعبت دوراً إيجابياً في حياة الشعوب العربية,ولكن ليس بوسعنا إلا أن نقرر بأن هذا الدور قد كان دوراً جزئياً ومحدوداً إلى حد كبير,وذلك لأن استخدام التكنولوجيا,على النحو المذكور,قد كان أعجز من أن يغير العقول والأذهان,ومن ثم ظلت الذهنية المسيطرة ذهنية ما قبل علمية من ناحية وذهنية ما قبل وطنية من ناحية أخرى.‏

أما من الناحية الأولى(الذهنية ما قبل علمية) فإن ذهنية الناس لم تصبح ذهنية نقدية مستنيرة والدليل على ذلك هو أن أكثرية الأقنية الفضائية اليوم أقنية ظلامية تقدم أسوأ التفسيرات للحياة الروحية,وأكثر التأويلات تخلفاً للحياة الدينية.‏

فهناك كثير من الأقنية التي تعرض الأحجبة والتمائم والرقى للبيع بالفيزا كارد,ولا تقبل وسيلة أخرى لدفع أثمان هذه الخرافات إلا إن كان بوسيلة مماثلة للفيزا كارد ولكن تحت شعار آخر,فهكذا أمكن استثمار التكنولوجيا لإشاعة التخلف وتأصيلة وتعزيزه وللإتجار به عبر الأقمار الصناعية.وأما من الناحية الثانية(الذهنية ما قبل وطنية),فإن معظم الشعوب العربية تفكر بطريقة عشائرية وقبلية وطائفية ومناطقية وجهوية.‏

ولك أن تضيف إلى هذه الأوصاف والنعوت ما شئت ما يضيق المجال عن ذكره ههنا في هذه العجالة,وهذا يشهد على أن التكنولوجيا لم ترتق بفكر الناس وذهنهم إلى المستوى الذي يجعلهم يفكرون بطريقة جديدة تتغير معها مطالبهم وأولوياتهم,فبدلاً من أن يفكروا في الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والمرأة..إلخ,يذهبون إلى مقابرهم يحصون موتى القبائل والعشائر.‏

والنتيجة المترتبة على كل ذلك هي أن تفكيرنا بالتكنولوجيا قد كان أقرب إلى التفكير في الأسطورة,وأن موقفنا من التكنولوجيا كان أقرب إلى الخرافة .من الممكن أن التكنولوجيا تغير شرائط الحياة المادية.‏

غير أن الأهم من ذلك كله هو تغيير شرائط الحياة المادية والروحية,وهو ما لم يحدث بعد.‏

salamahyoussef @ yahoo.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية