تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


للخالدين .. لا مراثي

آراء
الاثنين 18/8/2008
نواف أبو الهيجاء

الوطن لا يموت ,والحقيقة لا تموت ,والحب لايموت.

الوطن قد يتم احتلاله ,والحقيقة قد يتم تحويرها أو لي عنقها أو تشويهها أو حتى قلبها ,والحب قد يزوّر , وقد يتم القاء الاسيد الحارق على وجهه إمعاناً في تشويه صورته الرائعة.بيد أن الوطن يبقى - والحقيقة تنتصر ,والحب يظهر على التزوير كله وعلى الزيف كله وعلى النفاق كله مهما طال الزمن وامتدت المواجهة .‏

الوطن المحتل انجب وينجب ولد وهو يلد أبناء بررة - منهم من يمتشق السيوف - قبلا ,والبنادق ,اليوم -ومنهم من يمتطي صهوة الكلمة ويطوعها لكي تكون في الاثر إما بقوة الرصاصة وإما أكثر إيلاما ومقدرة .والوطن يتحرر في النهاية ,ويكرم أبناءه , ويخلدهم معه في باطن ثراه كما في قلوب الملايين من الأبناء والأحفاد - من الأجيال الآتية : ذي مسيرة الدنيا والبشر انسانيا - ما تخلد غاز في سفر الخالدين المبدعين وما بقي محتل ولا دام احتلال .وأن ذكر الغزاة كانوا في منطقة السوء والأسود والمثال الشرير لرواد الشر والمهالك ,أما إن ذكر المقاومون -الأبناء البررة للوطن والشعب والأمة والإنسانية -فهم يذكرون مع ذكر الوطن في المناسبات كافة ومتى كان الوطن (نسيا أو منسيا ) في أي لحظة حياة ومكابدة ? .‏

وفي هذا الوطن والعصر والقضية الاخطر والأشد وعورة وقسوة عربيا واسلاميا وإنسانيا - قضية فلسطين - كان الأبناء النجب في الداخل المحتل وفي الشتات القريب والبعيد على السواء .فتح عيوننا على الأحبة , الأبناء البررة للوطن والقضية منذ منتصف الستينات من القرن الماضي الشهيد الأديب غسان كنفاني شعراء المقاومة , الظاهرة في المحتل من الوطن (آنذاك ) قبل أن يتم احتلاله كله . كان منهم محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم كثير .محمود درويش اختار أن يخرج من دائرة سجن الاحتلال .وقتها خفنا عليه وعلى تجربته وعلى قدرته وعلى سخونة الكلمة في المواجهة .لكن درويش صار ظاهرة عربية إنسانية -بعد أن كان واقعة فلسطينية بامتياز .صار ظاهرة ببساطة لأنه أسس مدرسة - أسس قصيدة التلاحم مع الناس - مع كل الناس -مع كل أنواعهم - القصيدة التي نبذت بانتشارها ويسرها وحلاوتها وصدقها قصائد القلائد العربية . درويش ادخل الشعر إلى البيوت والقلوب والألباب في كل حين . نقش اسم التفعيلة واسم فلسطين وأحمد العربي وحفر في الصخر خطايا وجرائم (العابرين ) في مقابل ما أسسه في عمق التاريخ الإنساني للراسخين من أبناء الأرض والوطن والقضية عشاق فلسطين, عشاق الحرية والكرامة الانسانية,عشاق الانتماء إلى الأمة وإلى الانسانية في التطلع النبيل والمشروع إلى سماء صافية وقهوة ساخنة على أديم أرض فلسطين - شرفة على المتوسط في (الجديدة ) أو على (قصة ) من بيوت الأهل في الكرمل ,نزولا إلى رمال الشاطىء في غزة وانتظار ولادة التحرير من قلب الألم والمكابدة من مخيمات اللجوء ومواكب العطاء والفداء والمقاومة .محمود درويش جعل (فلسطين كلها ) بارزة ومنورة وجميلة واسيرة في عرف الناس وفي قدرتهم على التصور والتخيل والمواجهة والانسجام ومهماز العمل وروح الفعل ,لكي يزول الاحتلال وهو الحالة الطارئة المخزية والأليمة والمرفوضة ابدا ..‏

محمود درويش غصن زيتونة مباركة أصلها ثابت في فلسطين , وفرعها في دنيا البشر وسماء عشاق الحرية والمؤمنين بالإنسان وبمكانته العليا في الوجود . محمود درويش الغصن الأخضر الندي الطري المثقل بالثمر والعطاء من زيتونة فلسطين انقطع فجأة . الفاجعة ههنا .كنا نظن أنه (باق ولن يموت ) وإننا سنبقى معه دائما على مواعيد ونسينا أنه من البشر وسوف يذوق الموت - والجسد سيغيب ابدا ,ظللنا نتصور وهذا من حقنا أنه سيظل يذكر في الصباحات من الكرمل إلى طولكرم ومن هناك إلى جبل الشيخ وشقيقة (النار ) وعلى طول الخط إلى سهل المثلث وبني عامر امتدادا إلى البحر فشاهقات الجليل إلى (الجديدة ) فالقدس فرام الله إلى شاعر عمر المختار في غزة .. لكنه أيضا مع فناجين القهوة الصباحية في الدار البيضاء ومراكش والجزائر وطرابلس والشام وحلب وبغداد المحتلة وهي تقارع المحتل وتقاوم , ونواكشوط التي جعلته علما لمليونها من الشعراء وعدن وصنعاء والكويت والمنامة ومسقط وعمان بجبالها السبعة أو المائة .. والخرطوم التي تفتقده والقاهرة التي تمسي عليه وتصبح .لن يغفل عنه يوما زعترنا وعنبنا وصبارنا وزيتوننا وشومرنا وبرتقال يافانا ونخيل قليل إلى الشرق قبيل النهر وموز منقط يحمل اسم اريحا .. الفاجعة أننا كنا قد نسينا أنه إنسان وإن جسده لابد يذوي ,وإنه مع ذلك لن يموت مثل الآخرين .‏

اعطبوا قلبه , لكنهم ما اعطبوا قدرته على الابداع والمواجهة ولا حتى على أن يدير المدرسة الدرويشية من محيط العالم إلى محيطه ومن (تكساس ) إلى جزر اليابان .. ومن سنديانة في شمال سوريا إلى نخلة في البصرة .‏

محمود درويش لن ارثيك أيها الحبيب المخلد ,أنت القضية ,منها وفيها ,وأنت من الشعب وإليه وفيه ,أنت الكلمة التي امتلكت قدرة الشفافية والانبعاث الدائم لتلج من دون استئذان القلوب الإنسانية والألباب الإنسانية : قلوب وألسنة وألباب ليست تتكلم العربية أو الروسية أو الصينية أو اليابانية أو الأنكليزية أو الفرنسية حسب - قلوب وألباب تستمتع بالموسيقا وتتحسسها وتفهمها وتنتشي بما تثيره فيها من قوة وأمل وإحساس بالجمال ,قلوب بشر وقلوب أناس من بني الإنسان فتحت أحضانها على المصارع وهتفت : درويش أنت إنسان وشاعر باق .. أنت قضية ناجحة .. أنت قضية منتصرة . أيجوز أن ندبج المراثي في حضور قضية منتصرة ?‏

nawafabulhaija @yahoo.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية