|
آراء قد تطول الأعمارُ لا مجدَ فيها ويضمّ الأمجادَ يومٌ قصيرُ فكيف إذا كانت حياتك الحافلة بالعطاء المتدفّق ينبوعاً يجد نشوءه واستمراره في مناغاة الحقول التي ترتمي على صدره الدافئ لتعلّ من حناياه أندى شراب ؟!. كلّما نظرتُ في وجهك الفيّاض بشـْراً وأنساً عادتْ خارطة العمر لترتسم من جديد بأروع تضاريسها... سهول من الطفولة الوادعة ينسابُ فيها حنانُك شلال محبّة فيندفع الربيع يخطب ودّها لأنه يعرف أنها عنوان الاخضرار والاخضلال. حقول تمنّى القمحُ أن يبقى ذهبُها معرّشاً على أهدابه، لكنّ جوده يحثّ على الارتماء على مائدة المحتاجين إلى سخائه أرغفة تعطي بلا حساب لتعود وتنسى أنها قد أعطتْ يوماً ما... تأمّلتُ قمّتكَ أيها الجبلُ الشامخ فوجدتُ البصر يرجع عنها وهو حسير، فتعلّمتُ معنى الشموخ والكبرياء، وأنت الذي عوّدتَني أن أبقى متماسكاً أمام الصعاب والأزمات، لأنها ستخجل من إبائي وتعود من حيث أتتْ مولّية الأدبار.. كيف أنسى تلك الليالي التي كان سميرك فيها كتابُ الله، تموج آياته خشوعاً في نبرات صوتك، وتحكي قصّة الإيمان الذي تزيده السنون عمق جذور ونضارة أوراق. ثمانية وثمانون عاماً.. ثمانية وثمانون وردة.. وسنابل ملأى بالعطاء.. ذهَبِ سُمرة الكدح الشريف وفضّة العرق الطاهر.. صورتان مرتسمتان في كلّ خلجة من خلجات الروح ونبضة من نبضات الفؤاد صورة الوطن الباقي نشيد حضارة متجددة وأنت الذي اختزنتَ صورة ذلك الوطن، وتاريخ الأجداد العابر بين الأمس الباقي والغد الوليد النضير، وعلى أرجوحة الكبرياء تتماوج صورة الماضي العريق، وهنا تركن النفس فالأبعاد كلّها أنت يا أبي... تمنّيتُ يا أبي أن أعقد صلحاً طويل الأمد مع اللغة، وبعد أن تأنس بي أدعوها إلى مائدة جميلة لتأتي منسدلة الضفائر، تميس فتنة ودلالاً، لعلّ القلبَ يرقّ فتسمح لي باقتطاف أجمل ما عندها من ورود، لعلّي أنجح في صوغها عقد محبّة أمشي به على استحياءٍ إليك، وأطبعه على وجنتيك قصيدة وفاء متجدّد. أخاطب الأب العظيم الذي تعلمنا منه أشياء وأشياء وما زلنا في السطور الأولى من كتاب المجد والعطاء والإيمان. تعلمنا الأبجدية الأولى لمعنى الوفاء.. وعكفنا بعد ذلك على معاني البراءة في الصدق والأخوّة النقية.. وتعلمنا عزّة النفس ، ومنها انطلقنا نغيث الملهوف ونشعر أننا مقصرون إلى أبعد الحدود. أتذكر وأنتَ بشموخك الراسي تحاول ردّ المرض على أعقابه، لكنه عبء السنين ووقع خطوات الأيام وقطار الزمن الهادر؟! هذا المرض الصعب المؤلم.. ولماذا أسأل هذا السؤال وأنا أراك كما كنت قاسياً عليه حانياً في آنٍ معاً لأنّ الحنان يجري فيك مجرى الدماء في العروق، صلباً برقّة، عظيماً بتواضع.. أتذكر كيف كنت تقطع عن فمك لتطعمنا..وما أطعمتنا إلاّ عزة النفس ورباطة الجأش والصبر على الشدائد. أتذكر لم يطرق بابنا أحد.. إلاّ طالب رفد أو ذلك الحريص على أن يستظلّ بجاهك الوارف وأنتَ الذي كنت تردّد قوله تعالى: وأمّا السائل فلا تنهرْ... ولطالما رأيتُك ساعياً بالخير تصل ما انقطع بين أهل الحي الطيبين.. أتذكر قطع السكر التي كنت تخبئها لنا على طرف النافذة الخشبية القديمة لتقول انظروا ماذا أحضرتْ لكم العصفورة.. ومازال طائر ذكراك ينقر حبّة القلب ويقتات بسويداء الباصرة. وكيف كنا نلتفّ حولك.. وأنت تروي لنا حكاياتٍ نتحلّق حولها عصافير ندّتْ عن العشّ ثمّ عادتْ مسرورة إليه... وحكايات أخرى تحفظها الذاكرة.. عن الوفاء.. والرجولة.. عن كرهك للنميمة.. عن كرهك للخبث.. وعن حبك للقناعة بما يقسم الله لنا.. أيها الرائع.. يعتصر الألم قلوبنا.. لكن الأمل لا يذوي ولا يزول.. أتذكر كيف كنت تخفي دموعك إذا ألمّ خطبٌ ما بأحدٍ منا.... كما كان شأنك وأنت تفري السهاد على الكتاب المنزل بقدم طالما ذابت شوقاً إلى الصلاة؟!.. أيّها المارد بقاؤك بقاء كتاب السعادة وسكينة الروح واطمئنان العقل مفتوحاً إلى ما لا نهاية...دام ظِلّك وريفاً مديداً.. |
|