|
ثقافة هكذا قدم المسرحي سعد الله ونوس لمسرحيته (طقوس الإشارات والتحولات) التي عرضت مؤخراً في دار الأوبرا، إخراج الفرنسي من أصل سوري وسام عربش بإنتاج مشترك بين وزارة الثقافة-مديرية المسارح والموسيقا والمركز الثقافي الفرنسي بدمشق ومسرح لوف آديبا بدعم من بعثة المفوضية الأوروبية في دمشق. يذكر ونوس أنه استمد حكايته هذه من مذكرات فخري البارودي التي يروي فيها أصل الخلاف بين مفتي الشام ونقيب الأشراف في أيام الوالي راشد ناشد باشا، وكيف استقر الأمر بينهما وقام المفتي بمساندة النقيب عندما ألقى القبض عليه قائد الدرك وهو يلهو مع خليلة له. الفكرة الجنونية التي يتم تطبيقها لانقاذ نقيب الأشراف هي القيام بمبادلة بين زوجته وخليلته، عندها سيلقى اللوم على قائد الدرك ليكون مصيره السجن بدلاً من النقيب بتهمة تطاوله على علية القوم واتهامهم بما ليس فيهم. حيلة ينسجها المفتي عقاباً لكل من يتجرأ ويفكر بالنيل من أحد رموز الأكابر فهو يرى أن التجرؤ على عمامة النقيب يمس بشكل مباشر عمامته /مكانته/ هو، وبالتالي هناك مس بالوالي. هي تركيبة وجود أي عطب بأي جزء منها يفضي إلى هلاك الكل ولهذا يجب الوقوف إلى جانب من يماثلنا في هذه التركيبة حتى لو كان عدونا. تناقش المسرحية هذه الموضوعة إلى جانب الكثير من الأفكار الأخرى..بشخصياتها ذات التحولات الصارخة والانقلابات المفاجئة..أفراد سيتحولون عن مساراتهم إلى الضد..وكما لو أنهم يطبقون حقيقة مقولة: لكل فعل ردة فعل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه، إذاً كل فعل يتطرف في مسعاه ومبطنه سينقلب إلى النقيض. وفق هذا المبدأ ينقلب حال (النقيب، سعد لوستان) من اللهو والسكر إلى التصوف وحال زوجته (مؤمنة ،حلا عمران) من كونها زوجة صالحة مطيعة إلى امرأة تمتهن التعهر وباختيارها ورضاها، أما (المفتي، كفاح الخوص) فيهوى مؤمنة التي تشترط لاتمام مهمتها في إنقاذ زوجها النقيب الطلاق منه، يقع المفتي في حبائل عشقها حتى بعد أن تتحول إلى ألماسة الغانية، معترفاً أنه وقع في غواية الهاوية تلك التي كانت سبقته إليها (ألماسة) صاحبة الرأي الخاص في هذه الغواية التي تمتلك عنصر جذب في نظرها وكما لو أنها الطريق الذي يفضي إلى تحررها من كونها عورة على حد قولها. دون نسيان شخصية (عفصة، سيف أبو أسعد) التي تحولت بالظاهر فقط بمعنى امتلاكه شجاعة الاعتراف بوضعه كمخنث على العلن، المجاهرة بما هو عليه بعد ما كان يخشى انكشاف أمره والسبب حبه لصديقه (أبو فهد، أسامة حلال). بين هذه الشخصيات تدور تفاصيل اللعبة المسرحية وفق صراعات وأهواء وشهوات تنكأ الجراح المخبأة تفجر ما طمر منها، تجعله يعوم ويعتلي السطح. موضوعات عدة يخوض فيها النص-العرض، ينبش فيما تحت القشور التي يختبىء وراءها الكثيرون..ألقاب..مناصب وجاهات..طبقات عليا وأخرى وسطى وثالثة مسحوقة مثلتها في العرض شخصية (وردة، ناندا محمد) التي دخلت هذا الكار العفن-العمل كغانية- بعدما اعتدى عليها سيد البيت الذي خدمت فيه وهو بالمصادفة سيكون والد (مؤمنة-ألماسة). في العرض تأتي البداية بايقاع سريع تليها بقية المشاهد بايقاع لا يقل تسارعاً . من الملاحظ أداء الممثلين الذي يأخذ وتيرة صاعدة..هناك صعود لم يقابله هبوط..وكأننا بهم يسرعون عمداً اختصاراً وضغطاً للنص الطويل نسبياً..ما جعل انطباعاً يقفز إلى مخيلة المتلقي أن الأداء جاء في بعض أركانه كما لو أنه تحصيل حاصل..ما خلا بعض المشاهد لدى (حلا وناندا). وكما لو أن كتلة الديكور الضخمة التي تموضعت في الوسط وشغلت نسبة كبيرة من مساحة الخشبة لم تكن معيناً للممثلين بقدر ما كانت منافساً لهم إن لم نقل معيقاً في التواصل الحركي فيما بينهم، فالممثل في لحظات كثيرة يتعامل مع هذه الكتلة أكثر ما يتعامل مع مقابله الآخر بالوقت نفسه فإن كتلة الديكور كانت شريكاً حقيقياً في تجسيد الصراع الدرامي وبلورته على اختلاف بناه ومستوياته في الحكاية..هناك اختلاف وتنوع في التعامل معه وتمثيله ضمن كتلة الديكور تلك وهي جعلت وفق ثلاثة مستويات تحت، فوق، وسط..أعلى وأسفل..لف ودوران ومركز..تموضعات مختلفة منوعة وبالتالي أوضاع مختلفة لشخوص العمل اعتماداً على هيئة الديكور..شخصيات في الأعلى وأخرى في الأسفل..شخصيات في الأمام وأخرى في الخلف. وبين هذه وتلك تسير خطوط الحكاية وصولاً إلى ذروة الحدث (الصراع-المواجهة) بين الشخصيات. هنا تحديداً يقلل الديكور من عناء الممثلين في صراعاتهم يأخذ عنهم حملاً لأنه يقوم بوظيفة الأداة التي تستنفر طاقاتهم دوراناً، صعوداً وهبوطاً للطوابق الثلاثة واختراقاً للجدران كما في مشهد ألماسة والمفتي الأخير بينهما. أزياء العرض ساهمت بجعل إشارات استفهامه ذات بعد راهن، فهي ليست منتمية إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، زمن الحكاية الأصلية..هي أزياء من هذا الزمن الحالي، إيماءة إلى استمرارية القضايا التي طرحتها القصة المأخوذة من مذكرات البارودي والمعتمدة في نص ونوس. ولكن التساؤل لماذا لم يجعل العرض باللغة المحكية لاالفصحى؟ لطالما كان النص لكاتب سوري ولطالما كان هدف النص طرح تساؤلات ومشكلات راهنة ومتجددة وغالباً ما اعتدنا أن تكون الفصحى خياراً لأعمال مأخوذة عن نصوص عالمية مترجمة لاسيما عند انعدام الإعداد الجيد..فهل انعدام الإعداد الجيد كان سبباً في الحفاظ على اللغة الفصحى. على الرغم من كل ما تقدم فإن تقديم نص على هذه الدرجة من إثارة أمور مهمة وملحة هو محاولة جيدة للمخرج الشاب وسام عربش وتحسب له جرأته في تناول نص مثير للجدل لم يقدم عليه أي مخرج سوري آخر. يبقى أن نذكر أن التيار الكهربائي قطع أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقد على هامش العرض وبحضور سفير بعثة المفوضية الأوروبية والضيوف الفرنسيين الآخرين..ما اضطر الحضور لإكمال المؤتمر على ضوء اللوكس وعلى خشبة مسرح القباني. |
|