تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الفراغ والفوضى واستراتيجيات الهيمنة الأميركية

متابعات سياسية
الأحد 15-2-2015
حسن حسن

يمثل مصطلح الفوضى الخلاقة أحد أهم المفاتيح التي أنتجها العقل الاستراتيجي الأميركي في التعامل مع قضايا العالم العربي، حيث تمت صياغة هذا المصطلح بعناية فائقة من قبل النخب الأكاديمية وصنّاع السياسة في الولايات المتحدة،

فعلى خلاف السائد في المجال التداولي العربي لمفهوم الفوضى المثقل بدلالات سلبية من أبرزها: عدم الاستقرار أضيف إليه مصطلح آخر يتمتع بالإيجابية وهو الخلق أو البناء ، ولايخفى على أحد خبث المقاصد الكامنة في صلب « الفوضى الخلاقة» بغرض التضليل والتموية على الرأي العام العربي والعالمي.‏

حاولت الولايات المتحدة استثمار حالة الفوضى تاريخياً في عدة أماكن من العالم ، كمافعلت في ايران أيام حكم مصدق وقد نجحت حينها بإعادة الشاه إلى سدة الحكم ، الأمر الذي فشلت فيه عقب اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979.‏

وانتهجت استراتيجية فوضى الاحتواء المزدوج في التعامل مع الثورة أثمر عن قيام الحرب العراقية الإيرانية ، وعقب انهيار جدار برلين وسقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي اعتمدت استراتيجية الفوضى البناءة في التعامل مع الجمهوريات المستقلة، وتعتبر رومانيا نموذجاً مثالياً لتفجير الفوضى في بلدان أخرى ، وبالرجوع إلى المظاهرات التي عمت جورجيا وأوكرانيا، كان العنصر الحاسم في نجاح المظاهرات هو التهديد بالقوة من قبل الولايات المتحدة، وذلك بعد تحول السياسة الخارجية الأميركية من الاحتواء المزدوج أيام الحرب الباردة إلى استراتيجية أمركة العالم بالقوة والعمل على تغيير الأنظمة والجغرافيا عن طريق الفوضى الخلاقة، ولامانع من اعتماد الاحتلال المباشر إذا لزم الأمر في ظل غياب استراتيجيات الردع، وقد أفرزت المتغيرات البنيوية للواقع الدولي نمو وازدهار العولمة الأميركية بحيث أصبح القيام بواجبات الأمركة من صميم مهمات رؤساء الولايات المتحدة .‏

لقد تأثر جورج بوش الابن بعدد من الكتابات التي تؤسس للفكر السياسي المنظم للفوضى الخلاقة، واعترف بأن كتاب «قضية الديمقراطية » يمثل الخريطة الجينية لرئاسته وهو من تأليف المنسق السوفييتي المهاجر إلى«إسرائيل» والذي شغل منصباً وزارياً في حكومة شارون ناتان شارانسكي، وتتخلص رؤية شارانسكي باعتبار الإسلام حركة إرهابية لاتهدد«إسرائيل» فحسب ، بل العالم العربي بأكمله ويتفق شارانسكي بهذا الطرح مع الأطروحة الشهيرة لها نتنغتون التي تنص على أن الإسلام عدو حضاري للغرب.‏

في الآونة الأخيرة ، كان من اللافت كثافة جهود خبراء ومحللين سياسيين في الغرب للتعمق فيما يكمن وراء تفشي الإرهاب الدموي وانتشاره بصورة مدهشة تجاوزت جميع الأعراف وتجردت إلى حد بعيد من الغرائز والقيم الإنسانية الفطرية للبشر، حيث تركزت هذه الجهود باتجاه البحث عن الجذور الحقيقية التي أنبتت ظاهرة « داعش» وأشباهه بعض الدارسين والخبراء أشاروا صراحةإلى ضلوع أميركا والغرب في وصول هذه الظاهرة إلى أبشع مراحل السلوك الإرهابي بنزوعه إلى التفاخر بسفك الدماء والتمثيل بالجثث والتهام أكباد البشر والذبح بالسكاكين وأحياناً بالسواطير بشكل يستلهم ممارساته وأساليبه من عصور الهمجية البدائية أو الأقل منها في زمن ماقبل وجود الدولة.‏

وبعض أصحاب هذه التحليلات استخدموا تعبير (الفراغ) الذي يحرص دعاة الفوضى على استخدامه أحد الخبراء الأميركيين المرموقين وهو روجركوهن كتب مقالاً في«النيويورك تايمز» بعنوان(صناعة الكارثة) قال فيه: لا أحد يحب وجود فراغ في العالم العربي مثل المتطرفين الجهاديين فكيف نشأ الفراغ ومن المسؤول عنه؟!.‏

ولم تتوقف معاهد ومراكز أبحاث أميركية عن رصد أخطاء الإدارة الأميركية التي أسهمت في تنامي هذه الظاهرة الإرهابية وقد أجمعت آراؤها على أن استراتيجية أوباما سارت على نهج سلفه بوش الذي تم في عهده اعتماد تغيير المجتمعات العربية بحكام جدد على أن يكونوا من جماعة الاخوان المسلمين مع العمل على ايصالهم إلى الحكم في الدول العربية كافة وليس في مصر فقط.‏

وكانت مؤسسة (راند) للبحوث الشهيرة في أميركا قد نشرت تقارير موثقة عن العلاقة بين الاخوان المسلمين والإدارة الأميركية وصفها بالشراكة الإخوانية الأميركية، إضافة إلى مؤلفات أميركية وأوروبية أخرى نشرت تفصيلات العلاقة وتلاقي الطرفين على هدف واحد، هو تفتيت الدول العربية من داخلها وهدم الدولة، وهو هدف يمهد لانتشار الفوضى التي تخلق بدورها الفراغ الذي يهيء الجو المناسب لكي يقتحم الفوضويون والإرهابيون هذا الفراغ وكما قال روجر كوهن: إن الفراغ الدموي هو بالضبط ماسمح به أوباما في سورية ولما تنبه إلى مايحدث هناك كان الأوان قد فات، بعد تفتيت التماسك المجتمعي في العراق وانتشار داعش في مدنه جراء ضعف مواجهة أميركا لداعش في سورية والتي كانت مصادر تسليحها في تزايد مستمر مع تدفق الإرهابيين الجدد من الخارج للقتال تحت رايتها.‏

باختصار لقد تصور صانعو القرار الأميركي- وهم واهمون طبعاً أن في استطاعتهم السيطرة على مساحات الفراغ الذي ينشأ عن عمليات هدم الدول التي قاموا بها،إلا أنهم اكتشفوا لاحقاً أن الإرهاب لاوطن له، ولاحدود ولاجنسية ولاضمير وأن المنظمات الإرهابية التي رعوها وساعدوها في الانتشار في سورية والعراق وليبيا ولبنان تولدت عنها نماذج متطرفة إرهابية غير مسبوقة ، وباتت هذه النماذج تهدد الغرب في عقر داره، وعليه باعتراف أصوات من داخل أميركا، أن أميركا تتحمل كامل المسؤولية عن كارثة تفشي التطرف والإرهاب الدمويين وهما من صنع يديها بالذات.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية