|
ثقافة الحب المتبادل بين محمود درويش ودمشق عرفنا محمود درويش منذ سنوات الدراسة , فقد كان شعرا مقررا في الكتب المدرسية السورية بعد لمعان نجمه مباشرة كواحد من شعراء المقاومة , كنا ننتشي بشعره في عصر النكبات , وكان شعره المواكب للأحداث والمتين لغة وصورا عاملا مهما لمتابعته من قبل جمهور واسع من متذوقي الشعر الجميل . كثيرون قرأوا شعر محمود درويش , والفاجعة به مناسبة لقراءات أكثر , وفي حضرة الرحيل نقدم لمحات من حياته الشخصية باعتبارها أحدى مكونات سيرته الإبداعية , بل نجد في حياة محمود درويش تراجيديا الحياة الخصبة والمعذبة . أحب الشاعر دمشق وأهداها عدة قصائد نابعة من القلب , فقد قضى فيها بضع سنوات بعد خروجه من بيروت إثر الغزو الإسرائيلي في عام 1982 , ومنذ ذلك الحين كان يزور دمشق باستمرار حتى لكأنه لا يغادرها , وكلما زارها كان الحب الكبير يحفه أينما حل . لكن الزيارة الأكثر رسوخا في الذاكرة تلك التي جرت في أواخر آب 2005 حيث ظل يشدو نحو ساعتين في قاعة مكتبة الأسد التي غصت بالحضور كانت ملتهبة ومنتشية تتأمل وتصغي لدرويش الذي ألهب المكان وخاصة . وكانت أمسيته شاهداً واضحاً على الحب المتبادل بين الشاعر وسورية الممثلة بعاصمتها , حيث قرأ المزيد من الشعر بناء على طلب الحضور وكان الملايين يتابعون القصيدة على الهواء مباشرة عبر عدة فضائيات عربية وفي مقدمتها الفضائية السورية , وخلال المعرض بقى نحو ثلاث ساعات يوقع مجموعته الشعرية قبل الأخيرة ( كزهر اللوز أو أبعد ) . وقبل هذه القصيدة بسنوات كتب محمود درويش : يا أيّها المستحيل يسمونك الشام أفتح جرحي لتبتدىء الشمس. ما اسمي? دمشق و كنت وحيدا و مثلي كان وحيدا هو المستحيل. ويصل الحب المتبادل بين دمشق ومحمود درويش أن تكون أنثى دمشقية أول أمرأة في حياته حيث تزوج الكاتبة رنا صباح قباني , وكان هم التحصيل العلمي عندها في بلاد الاغتراب , السبب المعلن للافتراق بجد بضع سنوات. وكان نزار الدمشقي المؤثر الأول في التكوين الشعري لمحمود درويش , وأقر بتأثره بشعر نزار قباني في ديوانه الأول ( عصافير بلا أجنحة ) . العائلة والحب التقى محمود درويش رنا صباح قباني في واشنطن سنة 1977 فتزوجا لثلاثة أعوام أو أربعة , غير إنهما افترقا لأن رنا كانت تريد أن تحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كيمبردج . و في منتصف ثمانينيات القرن العشرين مترجمة مصرية تدعى حياة ألهيني ولم يستمر الزواج أكثر من عام , ولم يتزوج ثالثة معلنا أنه لن يتزوج لأنه مدمن على الوحدة ولا يريد أن يكون له أولاد, وقد يكون خائفاً من المسؤولية . ويعترف محمود درويش بفشله في الحب كثيراً وفي ذلك يقول : أحب أن أقع في الحب,, علامة برجي (الحوت), عواطفي متقلبة , حين ينتهي الحب, أدرك انه لم يكن حباً, الحب لا بد أن يعاش, لا أن يُتذكر . جماهيرية وألق بحلول سنة 1977 بيع من دواوينه العربية أكثر من مليون نسخة وبعد أن غزا الجيش الإسرائيلي لبنان سنة 1982 ترك بيروت منتقلا من سوريا وقبرص والقاهرة وتونس وباريس . وخلال 90 يوما في باريس سنة 1985 كتب نثرية ( ذاكرة للنسيان ) وهي أوديسا سيرة ذاتية على شكل يوميات بيروتية تجري خلال يوم واحد من القصف الإسرائيلي الثقيل في السادس من آب 1982 - يوم هيروشيما. ليس سياسياً انتخب محمود درويش عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية سنة 1987 , لكنه رأى دوره رمزياً , وعن ذلك يقول : ( لم أكن أبداً رجل سياسة ) ورفض عرضا من عرفات بتنصيبه وزيراً للثقافة . كتب درويش إعلان الجزائر ( إعلان الدولة الفلسطينية ) في سنة 1988 , واستقال درويش من اللجنة التنفيذية في اليوم التالي لتوقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993 لكن الاتفاقية سمحت لدرويش الانتقال إلى غزة , واستقر في رام الله سنة 1996, ورغم ذلك يعلن انه لا يزال في المنفى . وفي بداية الانتفاضة الأولى ضد الاحتلال كتب قصيدة ( عابرون في كلام عابر ) يقول فيها : آن أن تنصرفوا وتموتوا أينما شئتم / ولكن لا تقيموا بيننا / آن أن تنصرفوا وتموتوا أينما شئتم / ولكن لا تموتوا بيننا . واقتطف اسحق شامير القصيدة غاضباً في الكنيست, و قال إنها موجهة إلى الجنود الإسرائيليين واعتبرها دليلاً على أن الفلسطينيين يريدون إلقاء اليهود في البحر. ثلاث عمليات في القلب في الجانب الصحي أصيب درويش بنوبة قلبية وأجريت له أول عملية لإنقاذ حياته في سنة 1984, وعملية جراحية قلبية أخرى في سنة 1998. يقول درويش عن عمليته الجراحية الأولى: توقف قلبي لدقيقتين, أعطوني صدمة كهربائية , ولكنني قبل ذلك رأيت نفسي أسبح فوق غيوم بيضاء, تذكرت طفولتي كلها, استسلمت للموت وشعرت بالألم فقط عندما عدت إلى الحياة . ويقول عن العملية الثانية : رأيت نفسي في سجن, وكان الأطباء رجال شرطة يعذبونني, أنا لا أخشى الموت الآن, اكتشفت أمرا أصعب من الموت: فكرة الخلود, أن تكون خالدا هو العذاب الحقيقي, ليست لدي مطالب شخصية من الحياة لأنني أعيش على زمان مستعار, ليست لدي أحلام كبيرة. إنني مكرس لكتابة ما علي كتابته قبل أن اذهب إلى نهايتي . أما العملية الثالثة فقد أجريت له منذ أربعة أيام في السادس من آب 2008 في مستشفى بمدينة هيوستن الأميركية , ولهذا التاريخ ذكرى مؤلمة لمحمود درويش , ولم يدر أنها ستكون نهاية حياته , لقد تغلب على الموت مرتين , ولكنه خسر معركته الأخيرة. الحب مقاومة وكان ديوان ( سرير الغريبة ) في عام 1998 أول كتاب له مكرس للحب كلياً, ويقول : حتى القدرة على الحب شكل من أشكال المقاومة ويفترض أن نكون نحن الفلسطينيين مكرسين لموضوع واحد - تحرير فلسطين, هذا سجن, نحن بشر, نحب, نخاف الموت, نتمتع بأول زهور الربيع, لذا فالتعبير عن هذا مقاومة . |
|