تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


وأعشق عمري لأني إذا مامتُّ أخجل من دمع أمي.. محمود درويش وداعاً

ثقافة
الاثنين 11/8/2008
محمود درويش , شاعر عربي, حدود مملكته الشعرية تبدأ من امرىء القيس , ولا تنتهي إلا بانتهاء مملكة الشعر العربي والعالمي.

في شعره هموم الدنيا كلّها, سياسية واجتماعية وإنسانية إنه شاعر القضية, ليس قضية فلسطين وهي على كبرها شغلت العالم- بل قضية الانسان المحروم من أرضه ومن وجوده وتراثه, الانسان الذي مورست عليه أنواع الظلم كافة.‏

محمود درويش ابن الارض العربية التي التقت على ترابها المقدس الديانات السماوية , حمل معه هموم الدنيا طاف العالم باحثاً عن صديق, عن حلم عودته , حمل معه وهو مشرد وتارة أخرى وهو محمول على أمواج البحر, حمل معه أرضه و أشجاره, حمل معه النبوءة والابداع وهموم الاجيال القادمة .‏

في مسيرته الشعرية يتداخل الخاص بالعام , إنه الشاعر الذي نذر دمه وروحه , نذر كل تجارب حياته من أجل أن يكون صوته الشعري رسالة حق للعالم, إنه المقاتل الذي لم يترك خندقاً إلا وتمترس فيه.‏

كتب عن محمود درويش الكثير الكثير واليوم وغداً وبعد غد سيكتب الأكثر وربما الأجمل- قدمت أطروحات جامعية تناولت قضايا شعره وأما الكتب النقدية فهي الأكثر , ما من دولة عربية إلا وصدر فيها مجموعة من الكتب النقدية التي تناولت تجربة محمود درويش الشعرية, اختلفت الآراء حوله باختلاف المناهج النقدية وأصبح محمود درويش بحق مالىء الدنيا وشاغل الناس, ومع ذلك فإن النقد لم يرتق إلى النص المبدع الذي قدمه محمود درويش شعره وهو لحظة ولادة حقيقية أراد الشاعر أن ينقلها إلينا نقية, صادقة بريئة, أرادها رسالة وشهادة على مر العصور, ومن هنا فإن شعر محمود درويش غابة استوائية عذراء مر الكثيرون بالقرب من مداخلها, تجولوا قليلاً بين أشجارها الباسقة, قطفوا من ثمارها , زينوا من وردها ملامحهم.‏

رحلة العمر.‏

ولد محمود درويش في 13 آذار سنة 1941 م وثمة رواية يوردها الأستاذ رجاء النقاش يقول فيها: إنه عندما التقى محمود درويش في القاهرة في شباط سنة 1971 سأله عن تاريخ ميلاده فقال له : إن تاريخ ميلاده الصحيح هو13/3/1943 ولادته في قرية البروة شرقي عكا على مسيرة (9) كيلو مترات, احتل الصهاينة قريته سنة 1948 م ولكن أهلها حرروها فأعاد الصهاينة احتلالها وانتقموا منها فهدموها وانتقموا منها.‏

يوم في القرية‏

يقول درويش متذكراً قريته ! ( أذكر نفسي عندما كان عمري ست سنوات كنت أقيم في قرية جميلة وهادئة هي قرية البروة الواقعة على هضبة خضراء ينبسط أما سهل عكا وكنت ابناً لأسرة متوسطة الحال عاشت من الزراعة ,عندما بلغت السابعة توقفت ألعاب الطفولة , وإني أذكر كيف حدث ذلك... أذكر ذلك تماماً: في إحدى ليالي الصيف التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل أيقظتني أمي من نومي فجأة فوجدت نفسي مع مئات من سكان القرية أعدو في الغابة, كان الرصاص يتطاير فوق رؤوسنا, ولم أفهم شيئاً مما يجري, بعد ليلة من التشرد والهروب وصلت مع أحد أقربائي الضائعين في كل الجهات إلى قرية ذات أطفال آخرين, تساءلت بسذاجة أين أنا...? وسمعت للمرة كلمة : لبنان .‏

يخيل إلي أن تلك الليلة وضعت حداً لطفولتي بمنتهى العنف, فالطفولة الخالية من المتاعب انتهت, وأحسست فجأة أني أنتمي إلى الكبار, توقفت مطالبي وفرضت علي المتاعب منذ تلك الأيام التي عشت فيها في لبنان لم أنس, ولن أنسى إلى الأبد تعرفي على كلمة الوطن, فلأول مرة ومن دون استعداد سابق كنت أقف في طابور طويل لأحصل على الغذاء الذي توزعه الغوث( وكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين) كانت الوجبة الرئيسية هي الجبنة الصفراء, وهنا استمعت لأول مرة إلى كلمات جديدة فتحت أمامي نافذة إلى عالم جديد, الوطن الحرب, الأخبار, اللاجئون , الجيش, الحدود, وبواسطة هذه الكلمات بدأت أدرس وأفهم وأتعرف على عالم جديد علىِ وضع جديد حرمني طفولتي . خرجت إلى رحلة العود كان الظلام مخيماً على كل شيء وكنا ثلاثة أنا وعمي والدليل الذي كان يعرف مجاهل الدروب في الجبال والوديان, إني أذكر الزحف على البطون لكن لايرانا أحد, وبعد رحلة مضنية وجدت نفسي في إحدى القرى ولكن من أشد خيبة أملي لقد وصلنا إلى قرية الأسد.. وهي ليست قريتي, لابيتي هنا, ولا رفاقي, سألت: متى نعود إلى قريتنا إلى منزلنا, ولم تكن الأجوبة مقنعة , ولم أفهم شيئاً, لم أفهم معنى أن تكون القرية مهدمة , لم أفهم معنى أن يكون عالمي الخاص قد انتهى إلى غير رجعة ولم أفهم لماذا هدموا هذا العالم ومن هم أولئك الذين هدموه..‏

لاجىء في وطني‏

ويضيف درويش: رويداً, رويداً اعتدت على حياة الكبار وقضايا الكبار واتضح لي بمنتهى خيبة الأمل أني لم أعد إلى منبع الأحلام ولم أعد إلى زقاق الطفولة... كل ما في الأمر هو أن اللاجىء قد استبدل عنوانه عنواناً جديداً, كنت لاجئاً في لبنان وأنا لاجىء في بلادي, الآن عندما أتحدث إليك وأنا في الثامنة والعشرين من العمر.. الحديث كان موجهاً لرجاء النقاش آنئذ- فإنني قادر على تقييم تلك الفترة إذا أجرينا مقارنة بين أن تكون لاجئاً في المنفى وبين أن تكون لاجئاً في الوطن, فقد خبرت النوعين من اللجوء, فإننا نجد أن اللجوء في الوطن أكثر وحشية, العذاب في المنفى والأشواق وانتظار يوم العودة الموعود شيء له ما يبرره... شيء طبيعي ولكن أن تكون لاجئاً في وطنك فلا مبرر لذلك, ولا منطق فيه, وعندما نتقدم قليلاً في السن نتخلص من الغصة ونشعر أن الوجود هنا أكثر تبريراً).‏

في طريق الأدب...‏

محمود درويش الابن الثاني لأسرة تتكون من ثمانية أبناء خمسة أولاد وثلاث بنات والابن الاكبر في هذه الاسرة هو أحمد وكان أحمد مهتماً بالأدب وقد بدأ حياته بالكتابة الأدبية ثم توقف حيث انشغل بعمله كمدرس في قرية ( الجديدة) وعن (أحمد) الابن الاكبر أخذ محمود درويش بدايات اهتمامه بالأدب وفي أسرة محمود درويش أيضاً شقيقه الثالث( زكي) وهو كاتب قصة.. اسم الأب سليم درويش أما الأم فهي من قرية(الدامون) وكا ن والده يعرف القراءة والكتابة ولكنه لم يتعلم تعليماً منتظماً بعد أن درس في (كتّاب) قريته...‏

في المدرسة كما يقول ( اعتبرت تلميذاً متفوقاً , كنت أكثر من مطالعة الأدب العربي وقلدت الشعر الجاهلي في محاولاتي الشعرية الأولى, واليوم يبدو من المستهجن أن أكشف النقاب لأول مرة أني كنت موهوباً آنئذٍ في الرسم ربما كنت في ظروف وملابسات أخرى أتطور كرسام لا كشاعر...‏

وقد تضحك عندما تعرف لماذا توقفت عن الرسم... السبب في منتهى البساطة : لم يملك والدي قدراً من المال يتيح له إمكانية أن أشتري ما أحتاجه من أدوات الرسم , لقد زودتني بدفاتر الكتابة بشق النفس, آلمني ذلك كثيراً فبكيت وتوقفت عن الرسم وعندها حاولت التعويض عن الرسم بكتابة الشعر, وكتابة الشعر لا تتطلب نفقات مالية, كانت مواضيع محاولاتي الشعرية الاولى هي مشاعر الطفولة وكنت أحاول الكتابة أحياناً عن مواضيع ذات وزن , كانت أكبر من طاقتي في تلك السن شجعني المعلمون على الكتابة ولا أزال حتى اليوم مديناً لبعضهم, ومن بينهم معلم شيوعي هو: (نمر مرقس) قاموا بتوجيهي وساعدوا خطواتي الأولى في الشعر.‏

قالوا في إبداعه‏

كريم مروة: الأقرب إلى قلبي...‏

كتب كريم مروة عن محمود درويش قائلاً: أحببت أن أشير إلى أن محمود الأقرب بين الشعراء إلى وجداني وعقلي ومجمل أفكاري ليس وحيداً بين الشعراء الذين أقرأ لهم وأتأثر بشعرهم وأنه ليس وحيداً بين الشعراء الجدد حتى وهو يتقدمهم في تقييمي لشعره- وأعترف هنا بأن بعض ما يكتبه محمود شعراً ونثراً ومعظم نثره شعر برغم جمال لغته وصوره وأفكاره لايصل إلي وربما لايصل إلى غيري بفعل الإيغال في الرمز.‏

- رجاء النقاش: شعره عمل فني مسموع بالأذن والقلب...‏

في كتابه الهام عن محمود درويش شاعر الأرض المحتلة قال رجاء النقاش: لقد استطاع محمود درويش أن يصل الى توازن دقيق واضح بين الموسيقا الخارجية والموسيقا الداخلية فصوت قصيدته مسموع وهو بذلك يتخلص من ذلك الخفوت الموسيقي والفتور النغمي الذي نلاحظه في عدد غير قليل من نماذج الشعر الجديد والذي يدفع النقاد إلى وصف هذه النماذج بأنها نثرية أي أنها قريبة إلى النثر بقدر بعدها عن الشعر, ولكننا بالنسبة لشعر محمود درويش نحس بموسيقا هذا الشعر إحساساً واضحاً فيجعل من قصيدته عملاً فنياً مسموعاً بالأذن والقلب معاً وتستطيع أن تتبين القدرة الموسيقية الواضحة عند درويش دون عناء كبير).‏

بطاقة هويّة...‏

سجّل‏

أنا عربي‏

ورقم بطاقتي خمسون ألف‏

وأطفالي ثمانية‏

وتاسعهم سيأتي بعد صيف‏

فهل تغضب?‏

سجّل‏

أنا عربي..‏

وأعمل مع رفاقي الكدح في محجر‏

وأطفالي ثمانية‏

أسل لهم رغيف الخبز‏

والأثواب والدفتر‏

من الصخر‏

ولا أتوسل الصدقات من بابك...‏

سجّل برأس الصفحة الأولى‏

أنا لا أكره الناس‏

ولا أسطو على أحد‏

ولكني إذا ما جعت‏

آكل لحم مغتصبي‏

حذار .. حذار .. من جوعي‏

ومن غضبي...‏

في الشام...‏

الشام , أعرف من أنا وسط الزحام‏

يدلني قمر تلألأ في يد امرأة.. عليّ‏

يدلني حجر توضأ في دموع الياسمينة‏

ثم نام يدلني بردى الفقير كغيمة‏

مكسورة ويدلني شعر فروسي عليّ:‏

هناك عند نهاية النفق الطويل محاصر‏

مثلي سيوقد شمعة من جراحه- لتراه ينفض من عباءته الظلام تدلني ريحانة- أرخت جدائلها على الموتى ودفات الرخام‏

ماشياً لا فرق بين نهارها والليل‏

إلا بعض أشغال الحمام هناك أرض‏

الحلم عالية ولكن المساء تسير عارية- وتسكن بين أهل الشام ...‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية