|
معاً على الطريق أو تتوه في دهاليز الرؤى وأخيلة اليقظة وأنت تنشد محرابا ما اتسع لحظة لغير أولئك النساك الزاهدون مثل الدرويش وغيره.. فتتوارى خلف ضيق الوقت والصدر والعبارة , وتتخفى وراء مراسم الموت غير المحسوبة , فتحدث النفس وتقول : هذا هو محمود درويش .. إن استطعت إليه سبيلا ! من الوعي إلى الثورة , درب يطول أو يقصر , يبدأ ولا ينتهي أو ينتهي قبل أن يبدأ , هو ذاته الطريق بين الحرية ووعيها , حيث لا حرية دون وعي , وحيث كل وعي مآله الحرية , إذ كيف للمرء أن يبلغ اليقين بضرورة الحرية وبذل ماوسعه في سبيل نيلها ولو كان الروح والدم .. إن لم يع أولاً أنها العلة الأولى لمعنى وجوده , لتردد الأنفاس في صدره , بل وأكثر من ذلك .. للحياة بكل معانيها ومبرراتها , ودونها العدم العبثي ولا الجدوى ? محمود درويش فعل شيئا كهذا , في زمن أطبق الجهل على فلسفتي الحياة والموت معا , وفي برهة تاريخية عجز الآخرون فيها , وعبر أجيال وأجيال , عن اجتياز المسافة بين الوعي والثورة , بين الحياة وضروراتها , اختصر ملايين السنين الضوئية الفاصلة بينهما إلى سنين قليلة , أطلق خلالها شعرا هو أقرب إلى فلسفة التكوين منه إلى الموسيقا والتصفيق , أقرب إلى إدراك اليقينيات منه إلى لفظ الحجب وغرائز الحياة , صنع جزءا من وعينا , اجتاز بنا شوطا من طريق , دجج الثورة فينا باليقين , جعلها وطنا لا يصح انتماء إلا له , ولا معنى يستقيم إلا فيه . منذ الأزل , كان الوعي , ومازال , صلصالا , ترابا مقدسا , ولا روح تنفخ فيه إن لم يكتمل نحتا , كان مقياسا ومكيالا وعداد سفر , في اجتياز المسافة إلى الحرية بأي معنى من معانيها , إلى الوطن بكل معانيه , وإلى الحياة بما هي وطن وحرية وصلصال منحوت , وفي غضون قصيدة أو اثنتين , وفي رحاب ديوان شعري أو معلقتين انتقل محمود درويش بالقدس وفلسطين من جهل المأساة إلى معرفة الثورة , ومن تعداد أحزان الكارثة إلى بلورة مباهج المقاومة , ومن الاستغراق في نحت الصلصال فحسب إلى نفخ الأرواح في المنحوت منه على هيئة رجل يحمل بندقية أو طفل بيده حجر . لن أستعين بكلمة واحدة أو مقطع شعر أو طيف فكرة من محمود درويش , فأنا لا أرثي ميتا , ولا أنحت صنما , ولا أردد شعرا وموسيقا صدحا يوما , إنما أواصل نفخ الروح التي نفخها الدرويش ولايزال , الروح التي أقامت فلسطين ولم تقعدها حتى الساعة , تلك التي سجلت تاريخ ميلاد الحياة ولم توثق وقائع الموت والانكسار, فتحت العيون والمقل ولم تغلق الأسماع والفكر , روح تتنقل دون حواجز أو حقائب أو جوازات سفر , لا تبيت عند بوابات المعابر بين فلسطين .. وفلسطين , ولا تعد الأيام والسنين في نفحة أو عسقلان , ولا في الخيام وأنصار وأبو غريب , لا تجيد لغة المقابر والشواهد وملصقات الجدران , وتسافر من غزة إلى الضفة , ومن الضفة إلى جنوب لبنان , ومن هناك إلى بغداد والفلوجة .. وإلى أي مكان في دنيانا العربية الفسيحة الضيقة , لا شرط لها أو عليها , سوى ... من استطاع إليها سبيلا !! |
|