|
ثقافة «إن الأطباء لو كتبوا أجادوا، ولو أذاعوا ما علموا لأحدثوا رجة في الأدب وتغييراً في أساليب الحياة لأنهم وحدهم الذين سيكتبون بلا نفاق ويوحون بالحقائق من غير نفاق». د. جوزيف كلاس واحد من هؤلاء الأطباء، فقد برع في علاج القلب وأوعيته وكشف عن أسراره متميزاً في تخصصه بين أقرانه، لكن قلبه تعلق بالأدب إلى جانب الطب ومال إلى حب التاريخ فغاص في قلب أحداثه ليتحفنا بدقة وبراعة وموهبة بكتب ضخمة أرّخت لحقب مهمة في التاريخ العربي، إذ استطاع بغزارة علمه ودقة توثيقه أن يرصد مسيرة الطب في الحضارات القديمة بكتاب يعتبر وثيقة لكل دارس ومتخصص في الطب ليختصر بعده قروناً سبعة من تاريخ الأندلس في كتابه «أناشيد من الفردوس المفقود» ويوثق لأعلام الفكر الأندلسي والحياة الفكرية في القرن الخامس عشر للهجرة هناك، فضلاً عن تأريخه لثلاثة عشر قرناً من الحضارة العربية في كتاب يتحدث عن الحياة السياسية في الوطن العربي والصادر عام 2007. أما دمشق مهوى الأفئدة وواحة الشعراء وموطن العلماء فقد احتلت المساحة الأكبر في كتابه الأخير والصادر بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة 2008. ستة وعشرون مصدراً ومرجعاً عاد إليها الكاتب موثقاً كاشفاً الحجب عن أسرار ماض سحيق لتاريخ مدينة اختلفت فيها النظريات وتضاربت الأقوال منذ العصر الكنعاني والآرامي وصولاً إلى العهد العثماني والتي كان أهمها سقوط دمشق بيد العرب المسلمين وهو من أعظم الحوادث أثراً وأهمية، إذ إنه وضع حداً لحكم غربي دام ألف عام وفتح صفحة جديدة عادت فيها المدينة إلى أحضان أهلها، وما لبثت أن أخذت صفة قدسية في نفوس ساكنيها الجدد وأصبح لبعض مواقعها شهرة دينية. ويدخلنا المؤرخ إلى النسيج الاجتماعي في مدينة دمشق فاتحاً أبوابها السبعة متطرقاً إلى ليالي الأنس والتي كانت تستمر حتى الفجر وأسست للفن الغنائي فيها، أما عاداتها وتقاليدها والحوادث اليومية فيها فقد استقاها المؤلف من البديري الحلاق ومما سجله كردعلي في خطط الشام وفخري البارودي في مذكراته، واللافت أن الحياة الاجتماعية ظلت على حالها في دمشق ما يقارب مئتي سنة فكان تطورها أقرب إلى الركود منه إلى الحركة. ومن الحياة الاجتماعية انتقل إلى الحياة الأدبية مبيناً أن تاريخ مدينة دمشق وحياتها وما انبثق عنها من أدب وشعر يغرينا بقراءة أخبارها والوقوف على آثارها والاطلاع على نتاج أدبائها وشعرائها لذلك فقد بدأ الحديث عن هذه الحياة المتميزة منذ العصور البعيدة التي سبقت الإسلام حتى العصر الحديث مشيراً إلى أن الشام كانت مختصة بالتثقيف والتهذيب والتقويم، لذلك فإن الشعر الشامي امتاز بهذه الصفة التي جعلته أسيراً على اللسان وأعلق بالأذهان، وقد دعيت قصائد شوقي في دمشق بـ (الشاميات) لأنها صورت فترة من فترات الجهاد الأدبي الشعري كما كانت فتحاً جديداً في عالم الشعر السياسي الجديد. ولم ينس أن يذكر مكتباتها التي اشتملت على عشرات المخطوطات الثمينة والمؤلفات القيمة وأهمها الظاهرية والعادلية، وقد اندثر القسم الأكبر منها على مر الأيام، ثم جامعة دمشق المنشأة التي حازت على قصب السبق في تدريس العلوم باللغة العربية في القرن العشرين وبيمارستاناتها ومعاهدها وأطباؤها، مقدماً النماذج الرائدة فيها وأشهر أعلام الطب في دمشق وآثارهم التي ترجمت وطبقت الآفاق فضلاً عن منجزاتهم وإبداعاتهم التي استفاد منها الرواد من العلماء في عصر النهضة بأوروبا. أما الفنون والصناعات الدمشقية فقد شكلت ثروة حقيقية للمدينة حيث أجادت فن الرسم أصابع مسحورة، وكانت الزخرفة فناً جميلاً رائعاً يزخر بعناصر الإبداع حتى يمكن القول إنها حلية الفن وبدعته الأولى إذ كانت الصفة الزخرفية العنصر الغالب في الفن العربي تميزه عن سائر الفنون. وفي حديثه عن الفنون والصناعات الحرفية يشير د. كلاس إلى أننا لو تابعنا خطة مدروسة لأنعشنا مثل هذه الصناعات الدمشقية وأحيينا تاريخها ومنها الديباج والخز الموشى والأثواب المزركشة، ولدينا مثال مشجع في إحياء صناعة الفيسفساء خلال أعمال الترميم في الجامع الأموي بعد أن احتجبت عن دمشق سبعة قرون. وختم المؤلف كتابه بما قاله الدمشقيون عن مدينتهم وما فاضت به قريحة الشعراء الذين رأوا في دمشق ملحمة القرون وحارسة المثل، وحصن العروبة والإسلام المنيع. ففي كل حارة وزقاق منها نشيد لا ينتهي، أما السماء الرحبة التي تحيطها فهي الأمل الذي لا حدود له. |
|