|
آراء ومادتي هذه ليست من باب الرد على الزميل وإنما محاولة في تغطية جانب مهم حول هذه المشكلة التي يتناقلها المثقفون فيما بينهم كثيراً في الآونة الأخيرة ونتيجة وجودي في هذه المعركة وإدارتي لدار نشر وإدارة مطبعة لمدة طويلة وإدارة ورئاسة تحرير لمجلتين خاصتين وكوني كاتباً وصحفياً كل ذلك شكل لدي فكرة خلال فترة كافية وعلى العموم هي وجهة نظر من الواقع وليست لها صفة المطلق أو التعميم. والمسألة برمتها أراها من جانب آخر, تتعدد وجوه المشاركة وتتعدد المسؤوليات فشركاء عملي إنتاج الكتاب هم: المؤلف- المترجم- الناشر- المكتبة- الحكومة ممثلة بوزارتها واتحاداتها- السوق. كل هؤلاء شركاء من حيث المسؤولية والعلاقة وهي متعدية بأشكالها وأهدافها وغاياتها. فالمؤلف أولاً: لا يشتري كتباً وخاصة الشعر والقصة القصيرة ويعتمد لبناء مكتبته الخاصة على كتب الإهداءات فقط ثم يتحدث عن مشكلة غلاء أسعار الكتب وعدم قدرته على الشراء علماً أن أغلب الصحفيين والكتاب لا يكلفهم شراء كتاب واحد أكثر من ثمن فنجاني قهوة في أي مكان يرتادونه, فإذا كان حال المؤلف والصحفي هكذا, إذاً من الذي يشتري الكتب..? إن موجة الفيديو كليب والفضائيات والهواتف النقالة وصرعات الموضة قضت على جيل كامل كان من الممكن أن يعتاد القراءة وزيارة المكتبات كل شهر على الأقل, ثم تزداد المشكلة تعقيداً عندما يعتقد أي كاتب بأن كتابه مطلوب وسيجد طلباً منقطع النظير, لكن هذه النظرة بدأت تتضاءل بحكم الشعور بواقع الحال الذي لا يبشر بخير, ويعرف أغلب الكتاب وخاصة الشعراء منهم ذلك فبدؤوا بطباعة 200 نسخة أكثر أو أقل, مجرد ما يكفي لإهداءات للأصدقاء والشعراء والنقاد. ثم إن المسألة برمتها من وجهة نظري هي تواطؤ متبادل بين المؤلف والناشر, تواطؤ مبهم وخجول من قبل الطرفين وغايته عند الأول أن يجد كتابه طريقه للنشر والثاني غايته أن يلقى هذا الكتاب رواجاً وكذلك إصداراً إضافياً في داره. كما أنني لست خجولاً عندما أخبر القارىء بأن الطلب على الإبداع العربي المتمثل في (الشعر- القصة- الرواية- الدراسات الأدبية) قليل جداً وأغلب النسخ تذهب إلى مراكز دولية في العالم للاطلاع على الإبداع العربي وأرشفته, كما أن المسألة برمتها ليست بهذه القسوة أو بهذا المعنى تماماً لكنني أقول بأن الطلب على الكتاب في الدول العربية أصبح ضعيفاً جداً ولا أقيس الموضوع في فترة زمنية ما سوى من بعض التجارب السابقة سواء دور نشر أو مؤلفين أو مكتبات والآن بالمقارنة مع دور النشر الأوروبية والأميركية الذي ارتفع فيها رقم الطبعة الأولى إلى 300 ألف نسخة مباعة خلال أشهر بينما الناشر العربي تتلف كتبه في الصناديق المهترئة لكثرة نقلها وترحالها وشحنها وعرضها وتقليبها وتبقى على هذه الحال تجوب أصقاع الوطن العربي لمدة (5 سنوات على الأقل) وقد لا تباع. طبعاً باستثناء كتب (الموسم- الموضة) سمها ما شئت, فمثلاً ما رأيك بكتاب عنوانه(صدام حسين لم يعدم- القمح المبرعم- بنات الرياض- أسرار الطب العجيب- توقعات كارمن- المفكرة الهاشمية). وهذا الموضوع ينطبق بشكل سيئ على الجهات الحكومية التي تقتني كتباً من القطاع الخاص, متمثلة بالمراكز الثقافية والتي امتلأت رفوف مكتباتها بكتب التاريخ والشعر الجاهلي والتراث والمراجع والمعاجم والسلاسل, أما الكتب الجديدة نادراً ما تأخذ طريقها إلى رفوف المكتبات على اعتبار أن الكتب تقاس بالحجم والشكل والتجليد الفني الفاخر والقيمة التراثية والتاريخية والتي قل الطلب عليها أيضاً. أما بالنسبة للإعلام والصحافة والتي لا تساهم دائماً في تقديم الكتاب الأفضل والأهم هو إلقاء الضوء بشكل حقيقي حول نوعية الكتب وأهميتها وتحريض الطلب عليها, لكن اعتقد أن هذا الموضوع أيضاً سيجد طريقاً مسدوداً في العزوف عن القراءة بشكل واضح وصريح مهما كان نوع الكتاب وأهميته بالنسبة لجيل كامل. أما بالنسبة لدور النشر فالتكاليف الكبيرة التي تعاني منها باعتبارها جهوداً فردية وليست مؤسساتية تجعلها دائماً في وضع حرج وتساهم برأيي بشكل سلبي في تردي الثقافة نظراً لما ينشر والمساهمة في زيادة المشكلة بين المؤلف والناشر في الوقت الذي أقحمت نفسها في عملية كبيرة لا تستطيع التصدي لها على أية حال على المدى البعيد إلا ما ندر, ولهذا فإن تعويض المصاريف يراد له استبسال. حيث توجد في سورية ما يقارب 500 دار نشر, عدد الدور العاملة في مجال الثقافة والفكر الحر لا يتجاوز 20 داراً, بعضها أغلق وبعضها لا يزال يتكىء على ماض عريق والبعض الآخر أصبح مسوقاً يأخذ كتباً من دور نشر جديدة ويبيع على سمعة داره القديمة التي أفلت, ومنهم من يتكىء على بعض العناوين أو بعض الكتاب الذين تم الإقبال عليهم في فترة ما. كما أن الحكومة بما تفرضه من رسوم وضرائب وجمارك وأجور شحن تأتي من خلال النظر إلى مشروعات دور النشر في سورية على أساس أنها مشروعات اقتصادية خاضعة لنفس قوانين أي تجارة ولا يتم النظر إليها على أساس أنها تساهم مساهمة ولو بسيطة في التنمية الثقافية في البلد ويجب تعزيز دورها ودعمها أسوة بالإنتاج التلفزيوني والسينمائي والفن التشكيلي (الفنون البصرية) التي يصرف عليها من قبل الحكومة سنوياً مئات الملايين وعندما يصل الموضوع لاقتناء 20 نسخة من كتاب لمؤلف أي ب 2000 ل.س يظهر أنه لا توجد ميزانية وانتهت المخصصات ويتم الاعتذار, بينما سنوياً تساهم وزارة الثقافة في دعم الفنانين بأرقام اقتناء خيالية تبدأ ب 30 ألفاً وتنتهي ب 80 ألفاً, أما أجور الممثلين والسينمائيين في التلفزيون ومؤسسة السينما فهي عالية جداً وتقدم لها مهرجانات مجانية للترويج للسينما والدراما والفن التشكيلي بينما التظاهرة الوحيدة التي تقيمها مكتبة الأسد وهي معرض الكتاب تأخذ مقابل جناح (40 ألف ليرة سورية) دون أي خدمة تذكر إضافة إلى كتب الاقتناء التي تأخذها خمس نسخ من كل عنوان بشكل مجاني. أما المشكلة الكبيرة التي تعاني منها دور النشر فهي النظر إليها بشكل دائم على أنها مشروع اقتصادي ربحي منزه وملاك وأما واقع الحال فهو نظرة غير موضوعية وفيها الكثير من التجني, لأنها مثل أي فعالية تصيب وتخطىء لأن الكاتب أو المؤلف نفسه ليس ملاكاً ولا قديساً أيضاً. أما بالنسبة للمطابع فهنا الكارثة: يمارس عمليات استيراد الورق في سورية تجار القطاع الخاص والذين حسب رأيي يستوردون أنواعاً رديئة من الورق وتباع في السوق الداخلية بأسعار الورق النظامي أما هذه الأسعار فتزداد مع ارتفاع الدولار ولا تنخفض بانخفاضه, أما مراكز التحضير الطباعي والتي أحضرت إلى القطر في بداية التسعينيات كانت نتيجة الاحتكار تتقاضى 5000 ل.س عن طقم واحد لطباعة غلاف والآن تتقاضى 800 ل.س عن نفس الطقم رغم غلاء الأسعار, هذا الفرق من المسؤول عنه...? وهي تبرر بذلك الضرائب التي تفرضها الدولة على الآلات والتي تبلغ 40% من قيمة الآلات واهتلاك الآلات الإلكترونية بشكل سريع وغلاء ثمنها من الوكلاء. وهذا دليل على غياب دور الجمعيات الحرفية ووزارة التموين في ضبط العملية السعرية بتحفيز الدور النقابي أما باقي عمليات الطباعة من إخراج وطباعة وتجليد فهي تخضع لمالكيها وتحديد الأجور كما يراها وعليك أن تجد نفسك في غابة لاتعرف فيها الظالم من المظلوم مبررة غلاء الأسعار لتلك المطابع على رأس المال العالي الذي يكرس لإنشاء مطبعة والذي يتجاوز أكثر من 50 مليوناً إضافة إلى ضرائب الآلات والعقارات والخدمات والرسوم وأجور العمال والرواتب والأجور والتأمينات الاجتماعية وضرائب الأرباح والكهرباء والماء والهاتف والسجل التجاري والسجل الصناعي والترخيص الصناعي والجمعيات الحرفية وغرفة تجارة دمشق وغرفة صناعة دمشق إلى أسعار المواد الخام المحتكرة من قبل تجار المواد الخام الداخلة في عملية الطباعة, والدليل على ذلك تحول أحد كبار أصحاب المطابع في سورية إلى تجارة الورق نظراً لأرباحها السريعة والعالية. أما فروق الأسعار الذي تتقاضاها دور النشر (كمسيون) بين سعر المطبعة وسعر دار النشر فهي فروق زهيدة جداً وتؤخذ مقابل الخدمات التالية والتي لا تستطيع المطابع تقديمها إلا نادراً وهي تنضيد وإخراج وتدقيق وتصميم غلاف وإرسال نسخة للرقابة ونسخ للتداول ونسخ للإيداع ونسخ للصحافة والترويج للكتاب والمشاركة فيه بالمعارض. ألا تعتقد أن الدار بحاجة لمثل هذا الأجر نظراً للخدمات التي تقدمها. أما فكرة كاتب المقال على أن دور النشر تملك مطابع فهذا أمر مستحيل لأنها باهظة الأثمان والتكاليف. ولكن توجهت بعض دور النشر من أجل حل أزمتها بشكل مؤقت للجوء إلى آلات (الريزو) التي تأتي رخيصة قياساً بتكاليف آلات الأوفست ويمكن طباعة أعداد قليلة عليها نظراً لانخفاض تكاليفها وصعوبة التعامل معها نظراً لعدم وجود خبراء وفنيين. كما أنني أود الإشارة هنا إلى أن اتحاد الكتاب العرب نظراً لرداءة طباعة الريزو لا يقبل النسخ المقدمة إليه لنيل شرف عضوية الاتحاد. ثم أن (كمسيون الوساطة) نفسه تأخذه المطابع من المؤلف على تصنيع البلاكات والكليشات والسلفان والتحييز والتجليد والورق وما إلى ذلك لأن 99% من المطابع في سورية ليست لها تقنية متكاملة. أما مكتبات القطاع الخاص:فوحدها تسبب مشكلة في عالم النشر والتوزيع وسوء العلاقة بين الناشر والمؤلف لأن العملية تبدأ بالفرز من عنده عندما تتقدم دور النشر للمكتبات باقتناء وعرض الكتب الجديدة, لا تقبل الكثير من الكتب بحجة (أنها لا تباع) وتقبل الكتب بالأمانة (وبحسم 40%) والحساب كل ستة أشهر أو سنة وعندما تعود الكتب تعود مهترئة متسخة وعليه أن يقبل بها حتى لا تسوء العلاقة معه فيرفض كتبك دائماً والأبشع من ذلك عندما يمر أحد الكتاب يسأل عن كتابه في مكتبة تتم إجابته بأننا نطلبه ولايأتي. أما عن وزارة الإعلام والثقافة واتحاد الكتاب العرب والمؤسسة العربية لتوزيع المطبوعات: فالمسألة في غاية التعقيد ولا مجال للمقارنة لأن المسألة ليست ربحية وهي مدعومة في الدولة وتساهم في دعم أعضائها بغض النظر عن نوعية الإنتاج الفكري والجودة, إذ إن منشورات اتحاد الكتاب العرب في غاية الرداءة وتتعرض للهجوم كل مرة من قبل الصحافة بالشكل والمضمون وهي مكدسة في مستودعات الاتحاد, والاتحاد غير قادر على تسويقها إلا أن لجأ في الآونة الأخيرة إلى إبرام عقد مع إحدى دور النشر الخاصة للترويج لها في المعارض العربية والدولية. أما وزارة الثقافة فهي الوحيدة التي أنتجت كتاباً إلى حد ما ذا قيمة عالية من حيث النوع والجودة والسلاسة لكنها إلى الآن لا تملك وسائل التسويق الكافية لتصريف منتجاتها. أما مؤسسة توزيع المطبوعات: فإن آلية عملها روتينية في توزيع الكتب وهي تتقاضى نسبة عالية بين (35 -40%) أما المرتجع فلا تحصل منه إلا على 20% والباقي تدفع ثمنه. إن شركاء عملية طباعة ونشر الكتاب جميعهم مسؤولون عن تردي حال العلاقة المتبادلة وتردي وضع الكتاب بشكل عام ولكن لدي رأي آخر بأن تراجع القيم والمفاهيم وسيادة ظاهرة الاستهلاك والثقافة البصرية المبهمة, كل ذلك أدى إلى انحرف قيم مجتمع برمته يساهم بشكل أو بآخر في هذا الوضع السائد. |
|