تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عالم فوّاز حدّاد الروائي وسماته الفنيّة

ملحق ثقافي
24/3/2009م
نـذيـر جعفـر

التاريخ في روايات حداد ليس غاية بذاته, إنما الغاية تكمن في ترهينه, وإعادة قراءته.

‏‏

الواقع يتداخل ويتشابك ويلتبس بالخيال عبر صور«القرين» التي يقدّمها على نحو غرائبي مثير.‏‏

ينتمي معظم الأبطال المحوريين في رواياته إلى الشرائح المثقّفة من كتّاب وصحافيين وأساتذة جامعيين.‏‏

تحضر دمشق في أعماله حضورا كثيفا بأسمائها الحقيقية التي تكاد ترسم معالمها بدقّة في الأربعينيات والخمسينيات.‏‏

بدأ فوّاز حدّاد رحلته الروائية في العام 1991مع «موزاييك دمشق1939»ثم أتبعها بسبع روايات كان آخرها: «المترجم الخائن»(1). التي صدرت عن دار الريّس في العام 2008, ووصلت إلى قائمة الترشيحات القصيرة لجائزة البوكر العربية.‏‏

ويمكن للدارس أن يستنتج عددا من الثيمات الرئيسة التي تطبع عالمه الروائي, وتشكّل بنيته السردية, ومرجعياته, وتقنياته الفنيّة. وأول هذه الثيمات: اشتغاله على التاريخ بوصفه ماضيا مستمرا. وثانيها: تتبّعه لجذور الفساد الذي يطول المجتمع بأبعاده السياسية والثقافية والروحية. وثالثها: رصده لنماذج المثقّفين وميولهم ومواقفهم المتباينة. ورابعها: استثماره لمفهوم «القرين» بوصفه شخصيّة روائية وتقنية فنيّة في آن معا. وخامسها: اتخاذه من دمشق فضاء مكانيا مركزيا لأحداثه وأبطاله. وسادسها: تهجين السرد باللغات واللهجات والنبرات الاجتماعية والمهنية المتعدّدة. وسابعها: إخلاصه لمفهوم الحبكة التقليدية بعناصرها المختلفة.‏‏

ـ ترهين التاريخ:‏‏

تشكّل الروايات الثلاث: «موزاييك دمشق1939», و«تياترو1949», و«المترجم الخائن», متوالية زمنية تبدأ من حقبة الانتداب الفرنسي في أربعينيات القرن الماضي, مرورا بالانقلابات العسكرية المتتالية في الخمسينيات, ووصولا إلى يومنا هذا في مطلع الألفية الثالثة. وعبر هذه المتوالية يرصد حدّاد مسارات تحوّل المجتمع السوري بأبعاده السياسية والفكرية والاقتصادية والروحيّة, وتشابكه مع محيطه القومي, وصراعه مع النفوذ الدولي.‏‏

ومع أن هذا المضمون التاريخي لرواياته يحضر بوثائقه وزعمائه وأحداثه وإحالاته الرمزية ودلالاته, إلا أنه لا يشكّل غاية السرد ومرماه الحيوي, بقدر ما يشكّل فضاء زمنيا عاما للتحوّلات النوعيّة التي كانت تجري في القاع الاجتماعي. وبتصوير التفاعل والتناغم بين القاع والسطح, وبين العام والخاص, والواقع والمتخيّل, يكتسب التاريخ راهنيته ومشروعية استعادته روائيا من ناحية, وتتحقّق فنيّة السرد وجماليته من ناحية ثانية.‏‏

إن التاريخ في روايات حداد ليس غاية بذاته, إنما الغاية تكمن في ترهينه, وإعادة قراءته, وفهم تأثيره في تشكيل وعي ومصائر أبطاله من سياسيين ومثقفين وبسطاء, وتأثيرهم فيه أحياء وأمواتا, جلاّدين وضحايا, شهداء وخونة. وهو ما يلقي مزيدا من الضوء على الواقع الراهن وآفاق تحوّلاته.‏‏

ـ تتبّع جذور الفساد:‏‏

إن الفساد السياسي والإداري بوصفه تجليّا لآليات الاستبداد الشرقي, وما ينجم عنه من خراب روحي, وعطب نفسي, وشلل اجتماعي, ليس وليد اليوم أو الأمس القريب, إنما يمتدّ بجذوره إلى الماضي البعيد, منذ تمّ إقصاء وتهميش الشعب وقواه الحيّة عن مراكز صنع القرار, واستئثار القلّة الانقلابية وأجهزتها الأمنية بها. وهو ما تحاول رواية «تياترو1949» الكشف عنه من خلال تصويرها للصراع بين الأحزاب والعسكر في عهد الانقلابات وانعكاس هذا الصراع على حياة الناس وقتل أحلامهم وطموحاتهم. وتعزّز روايتا: «الولد الجاهل», و«المترجم الخائن», هذا السياق عبر تناولهما للصراعات والولاءات السياسية والثقافية التي تزيد من غربة المثقّف الحقيقي, وتقصيه عن دائرة الفعل والتأثير.‏‏

ولا تكمن أهمية روايات حدّاد في تناولها لهذا الموضوع الذي أضحى ثيمة مركزية فيها, إنما تكمن في فنيّة تصويره النموذجي عبر شخصيّات نموذجية متصارعة, تجسّد كل منها قيمة إنسانية وفكرية مختلفة عن الأخرى. وهذا ما نجده في شخصيّة حامد سليم في «المترجم الخائن» التي تواجه صراعا غير متكافئ مع شريف حسني أحد متنفّذي أجهزة الثقافة والإعلام, كاشفة عن فساد الضمائر التي تتحكّم بها. وشخصيّة حسن لطفي القاص المرهف الذي يندب للعمل في الداخلية ويكلف من قبل المنسّق(نعمان) بمهام ليس أهلا لها, فيقف من خلالها على الفساد الذي يعصف ببنية المجتمع. وشخصيّة صبحي عبّاس في «تياترو1949» الصحافي الباحث عن الحقيقة الذي يصطدم بشخصية مدير تحرير جريدة الاستقلال عبد المجيد سعفان وما تمثّله من انتهازية ووصولية.‏‏

وهكذا لا تحضر ثيمة الفساد وجذوره بمعزل عن شرطها الإنساني المتمثل بوقائع وأحداث وشخصيّات نموذجية من لحم ودم تعيش وتتحرّك بيننا, وهذا ما يمنحها مصداقيتها الفنيّة والواقعية.‏‏

ـ نماذج المثقّفين:‏‏

ينتمي معظم الأبطال المحوريين في روايات حدّاد إلى الشرائح المثقّفة من كتّاب وصحافيين وموظفين وأساتذة جامعيين ومسرحيين وفنانين ونخب عسكرية وسياسية ودبلوماسية عربية وأجنبية. ولا تقدّم هذه الروايات صورة نمطية واحدة للمثقّف, كما لا تنظر إلى هذه الشريحة الواسعة بوصفها كتلة واحدة متجانسة في الدوافع والغايات, بل بوصفها مجموعات متباينة المصالح والأهداف إلى حدّ التناقض والصراع فيما بينها. فمن صورة الصحافي المثقف الملتزم بالحقيقة صبحي عبّاس, والمسرحي الحالم حسن فكرت في «تياترو1949», إلى صورة الكاتبة الغامضة جيهان سلام, والكاتب المثقف حسن لطفي في «الولد الجاهل» الذي يعيش تناقضا صارخا بين وظيفته الأمنية في الداخلية, وهواجسه الإبداعية في كتابة القصّة. ومن صورة المترجم المثقّف الحيادي حامد سليم في«المترجم الخائن» الذي يعاني من التجاهل والتهميش والاغتراب النفسي والوجودي, إلى صورة المثقّف السلطوي والانتهازي والوصولي المستكلب المتمثّلة في الصحافي شريف حسني, والناقد جميل حلوم, والروائي سمير فاروط, في الرواية ذاتها.‏‏

هذه الصور المتعدّدة لأنماط من المثقفّين ُتبرز التنوّع الكبير في صفوفهم القائم على تنوّع انتماءاتهم ومواقعهم الطبقية والفكرية. وقد أسهم هذا التنوّع في الابتعاد عن مفهوم الشخصية النمطية للمثقّف, والاقتراب من النمذجة الفنية لها القائمة على تصويرها النموذجي وفق ظروفها النموذجية التي تبرز خصوصيتها الفردية بالقدر الذي تبرز فيه سماتها العامة والمشتركة.‏‏

ـ شخصيّة «القرين»:‏‏

«القرين» لغةً: هو المقَارَن والمصَاحَب. ومنه القرينة: النّفس. واصطلاحا: هو الذات الثانية, أو المنشطرة, أو المتحوّلة. وبهذا المعنى يحضر في أعمال فواز حدّاد بوصفه شخصية روائية, وتقنيّة فنيّة في آن معا, تقوم على تصوير ذاتين أو أكثر في ذات واحدة.‏‏

وقد ارتبط ظهور مفهوم «القرين» في الأدب برواية الاعتراف في الغرب, كما يشير الدكتور جابر عصفور(1). وهو يتيح إمكانات واسعة للكشف عن المسكوت عنه والمقموع والمكبوت. ومن هنا شكّل ثيمة رئيسة في عالم فوّاز حدّاد القصصي والروائي.‏‏

ففي مجموعته القصصية اليتيمة: «الرسالة الأخيرة»(2) لا تخلو قصّة من حضور«القرين» المتخيّل, أو المتوهّم, أو المنشطر عن الشخصية المحورية فيها.‏‏

أمّا رواياته الثلاث: «تياترو1949», و«الولد الجاهل» و«المترجم الخائن», فإنها تقوم شكلا ومحتوىً على مفهوم «القرين» المنشطر عن شخصيّة البطل, والمتخفّي وراء أسماء وأقنعة مختلفة.‏‏

ففي رواية: «تياترو1949» يتّخذ القرين اسم حبيب رزق الله, تاجر المنسوجات الحريرية, المنشطر عن شخصيّة المخرج المسرحي حسن فكرت! وهذا الانشطار لا يماثل بين الصورة والأصل بقدر ما يباعد بينهما ويجعل لكل منهما خصوصيته التي ينفرد بها عن الآخر. ومردّ ذلك عائد إلى أن حسن فكرت اتخذ من شخصيّة التاجر الناجح المتوفّى حبيب رزق الله قناعا له في البداية, ليستعيد توازنه النفسي تحت وطأة الهزيمة المالية, والمسرحية التي مني بها. لكن هذا القناع سرعان ما يتقمّصه في ظلّ انقلاب حسني الزعيم, فيصبح الميّت(حبيب رزق الله) حيّاً, والحيّ(حسن فكرت) ميّتا! في مجتمع تعصف به الانقلابات والأهواء والصراعات السياسية والحزبية, وتنقلب الموازين. وهذا ما يستدعي سؤال حسن فكرت للضابط أسعد كسّوب: «كيف يكون الأستاذ فكرت متّهما البارحة, وبريئا اليوم, ومطلوبا غدا! ص 319». وهو السؤال الجوهري الذي يكشف عن لامنطقية ولادستورية القوى الانقلابية التي استأثرت بالسلطة وحكمت بحسب أهوائها مسببّة العطب والانفصام النفسي لأبنائها, والشلل الفكري والإنتاجي والإبداعي لمجتمعها.‏‏

وفي رواية: «الولد الجاهل» يتّخذ القرين اسم «الرجل الضالع» المنشطر عن شخصيّة الشاب القاص حسن لطفي. وهو لا يظهر إلا في الانعطافات المصيرية المهمة, والمواقف الحرجة التي تستدعي تدخّله لإنقاذ الشخصيّة المنشطر عنها, أو تصويب سلوكها ومسارها, أو حمايتها مما قد يصيبها من مكروه. ويبدو «القرين» هنا تمثيلا رمزيا للقوى الخفيّة والكامنة داخل الشاب, أو القوى المكبوتة والمقموعة التي تتسلّل عبر اللاشعور معلنة عن وجودها المهدّد في لحظة ما دون خوف أو حساب لأحد!‏‏

أمّا في «المترجم الخائن» فيضطر المترجم حامد سليم إلى الكتابة بثلاثة أسماء مستعارة: (عفيف حلفاوي, أحمد حلفاني, حسن حفلاوي) هربا من سطوة الرقابة, والتفافا على حالة الإقصاء والتهميش المتعمّد التي يفرضها عليه خصومه. وسرعان ما تتقمّصه هذه الأسماء لتصبح قرائن له, تحاوره, وتخالفه الرأي, وتخاصمه أحيانا إمعانا في اغترابه وانقسامه على ذاته في مشهد ثقافي متعفّن يظلّله الخوف, ويجول فيه الانتهازيون, فيما يقبع أمثاله في الظّل.‏‏

إنّ الواقع يتداخل ويتشابك ويلتبس بالخيال عبر صورة القرين على نحو غرائبي مثير, إلى الحدّ الذي لا يميّز فيه البطل نفسه أو المتلقي بين الحقيقة والوهم, والأصل والصورة: «أيّ جموح في الخيال لو أنني قبلت بتقاسم ذاتي مع آخر, هو أنا, ويعمل على تبعيضي!! مجرّد هذه الفكرة تدعوني إلى الضحك الهستيري ص 155».‏‏

إن «القرين» بوصفه شخصية منقسمة, يتحوّل هنا إلى تقنية فنيّة أيضا, تخلّص السرد من إيقاعه البطيء, وتتيح إمكانية البوح والحديث عن المكبوت والممنوع ومكنونات النفس بحرية كبيرة. كما تفتح النّص على آفاق واسعة ترتقي بالبرنامج السردي من المباشرة إلى التخييل الفنّي, ومن أحادية المعنى والدلالة إلى تعدّدها, ومن اليقين إلى التأويل, وفي ذلك سرّ من أسرار الفنّ الروائي وسحره وجاذبيته.‏‏

ـ دمشق/المكان:‏‏

ما عدا بيروت والقدس في «الضغينة والهوى» اللتين تحتلان واجهة الفضاء المكاني إلى جانب دمشق, وتونس وبغداد اللتين تمران مرورا سريعا في «المترجم الخائن», فإن الثيمة المكانية المركزية التي تدور فيها الأحداث في روايات حدّاد عامّة هي دمشق. وتحضر بأماكنها الأليفة والمعادية, والمفتوحة والمغلقة, حضورا كثيفا بأسمائها الحقيقية التي تكاد ترسم معالمها بدقّة في الأربعينيات والخمسينيات وما طرأ عليها من تحوّلات حتى يومنا هذا. فنتعرّف إلى شوارعها مثل: العابد, وفؤاد الأول, و29 أيار, وبور سعيد, وبغداد. ومقاهيها: الهافانا, والبرازيل, والروضة, والكمال, والفاروق. ومطاعمها, ومقاصفها: اللوازيس, وسحلول, والرواق, والصّحي, وسقراط. وحدائقها: السبكي. وساحاتها: المرجة, والنجمة, وعرنوس, والشهبندر. وخماراتها: بقلة, وروكسي. وحاراتها: ركن الدين, والحلبوني, وعين الكرش, وجوبر. وأسواقها: الحميدية, وساروجة, والمسكية. ومساجدها: يلبغا, والأموي. وتتلون تلك الأمكنة حينا بمشاعر الأبطال المحوريين وظلال الأحداث السياسية التي شهدتها, فتعلّق القراءة وتستدعي بجمالياتها العمرانية وإسقاطاتها التاريخية والدينية والكفاحية ذاكرة المتلقي التي ترتبط بها ارتباطا عضويا. فيما تبدو حينا آخر محايدة ومنفصلة, بل مجرّد معالم سياحية عابرة, أو نقاط علاّم تحدّد اتجاه الشخصيّات وأماكن تنقّلها وعملها لا غير.‏‏

ـ تهجين السرد:‏‏

يبرز الولع الخاص بالتهجين اللغوي والكلامي في معظم أعمال حدّاد وعلى وجه الخصوص في: «المترجم الخائن». ويمكن تلمّسه في الألفاظ المعجمية الجزلة والمهجورة التي يعمل على إحيائها من جديد مثل: «عقيرته, الوصيد, المسغبة, الترنيق, الذلاقة, المرشوم, الألمعي, عريكته...», والمصكوكات والتعابير المأثورة: «يعضّه الجوع بنابه, شفير الهاوية...», والألفاظ الدارجة أو الأعجمية مثل:« كركون, فونوغراف, كرافيت, سيلول, مبلكم, لقلوق, أندبوري, عكروت, فصعون, بندوق, مفرشخ, شرشحة, انجعاص, بروظة, زعبرة, نوّاصة...», والمفردات الكنائية المشحونة بدلالات اجتماعية مثل: «الناس المريّشين, ضحكات شلكّاتية..», والاستنتاجات التأملية:«الثقافة مثلما ترقّق القلب تقسّيه أيضا/ المترجم الخائن ص 75», « لا تستهن بالكلام, تحت غطائه تدور في العالم كلها أقدار الدول والبشر/ المترجم الخائن ص45». ومثل هذا التهجين الذي يتعامل مع اللغة الروائية بوصفها تنوعا كلاميا واجتماعيا وطرق تعبير وأرغات مهنية منظّمة ومتناغمة فنيّا هو أحد المقدّمات الأساسية للجنس الروائي على حدّ تعبير باختين.‏‏

وحتى أسماء الشخصيات لم تأت اعتباطا فهي تدخل ضمن سياق التهجين ببعده الكنائي الدال الذي لا يخلو من نزعة ساخرة تثير المرارة لا الضحك. ومن هنا كان أسعد كسّوب في «تياترو 1949»متناغما مع لقبه في سلوكه الانتهازي القائم على الكسب, وشريف حسني في «المترجم الخائن» ليس فيه من الشرف والحسن سوى اسمه, وحكيم نافع لا حكمة فيه ولا نفع له, أما سامي فليس سوى رمز للوضاعة والخسة!‏‏

ـ تقليدية الحبكة:‏‏

باستثناء «الضغينة والهوى» التي يتعدّد فيها الرواة وتتعدّد أصواتهم ونبراتهم وأشكال حضورهم في البرنامج السردي, فإن البنية السردية تنهض في روايات فوّاز حدّاد عبر ضمير الغائب على لسان الراوي كليّ المعرفة/ المؤلف الضمني, الذي يسوس السرد ويوجّه مساراته, ويستنطق شخصيّاته دون أن يقحم نفسه إقحاما مباشرا إلا فيما ندر, مكتفيا بذلك بدور الشاهد الأمين على ما يحدث. وحضور الراوي الأحادي في هذه الصيغة حضور تقليدي عرفته أمهات الروايات الكلاسيكية في العالم قبل موجات التجريب المتعاقبة في الربع الأخير من القرن الماضي. ويتبع هذا الحضور التقليدي للراوي حبكة تقليدية أيضا تقوم على التتابع الكرونولوجي للأحداث (بداية ـ عقدة ـ نهاية), مما يقلّل من إمكانيات اللعب على الزمن وتشظياته ومفارقاته والتنقّل الحرّ ما بين الحاضر والماضي والمستقبل. ووصف الحبكة بالتقليدية لا يحطّ من شأنها لأنه ليس حكم قيمة إنما حكم معياري يستند إلى خصوصية الجنس الروائي وإمكانياته وتجلياته الفنيّة المتعدّدة. لكن تعدّد الرواة وتعدد صيغ حضورهم ما بين الغائب والمتكلّم والمخاطب في الرواية الحديثة, يتيح إمكانية تعدّد اللغات واللهجات والنبرات والخطابات الإيديولوجية بشكل أكبر وأصدق فنيّا, ويقصي أحادية الراوي ومنطوقه الشخصي, وهو ما ينسجم مع حرية وديمقراطية التعبير في الواقع الاجتماعي والروائي على حدّ سواء.‏‏

ولا بدّ من الاحتراز في النهاية من وصف الحبكة بالتقليدية الخالصة, لأن أعمال حدّاد ُتطَعّم أيضا بعناصر حداثية تقتحم بنيتها السردية وتتجلى في التهجين اللغوي وتعدّد مستوياته, وفي إستراتيجية العنونة الرئيسة والفرعية, وفي خروج الوصف عن وظيفته التقليدية المعهودة في التزيين إلى الوصف الترميزي والنفسي والإيهامي, وهو ما يصبّ في تجديد دم الرواية التقليدية التي ما زالت تستقطب شرائح واسعة من القراء لما توليه من عناية بالتشويق, وبالعناصر الدرامية, التي تعكس بهذا القدر أو ذاك صراع المصالح والأفكار, وتحقّق للقارئ المتعة والمعرفة في آن معا, وهما مدخلان رئيسان إلى قلب وعقل القارئ.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية