|
مجتمع عندما تضحك برتقالةٌ غادرت للتوّ غصنها فإنما تقول للهفة التي رافقت راعيها أشهراً من التعب شكراً لك، وعندما تقطع نبتةٌ صغيرة المسافة الفاصلة بين مرحلة إنتاشها ورؤيتها للنور فإنما تمجّد ذلك التعب وتقرّ بأهميته فتحاول أن تلّون انتظار هذا الفلاح بكل ألوان الأمل والتفاؤل.. هي حكاية أزلية مع الحياة يعيد سردها عجوز بعمر والدي بعبارات مختصرة « الأرض تحبّ من يلقي عليها التحية والسلام... الشجرة تحبّ من يعتني بها ويتظلل بظلّها... بركة الرزق بلمّه وعدم التعالي على قليله.. إذا أطلتَ الغياب عن أرضك فقد تنساكَ.. إلخ». وعن تدبير أمور الحياة علّمنا أهلنا أن نضفي القدسية على لقمة الخبز لأن وجودها ضمان لاستمرار الحياة، وعلّمونا أيضاً أن نوفّر قرشنا الأبيض ليومنا الأسود، وأن نخبّئ « قطع حطبنا الكبار إلى شهري شباط وآذار» وألا نأكل حتى نجوع وإن أكلنا ألا نشبع لا عن بخل وإنما عن حيطة وحسن تدبير.. وفي السياسة علّمونا ألا نخوّن الآخرين ولو كانوا «خوانين» وأن الأرض عرض وأن الشهادة دفاعاً عن الأرض والعرض أعلى القيم وأجلّ الخلق.. ونتذكّر في أيام دراستنا في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي ما كان يردده معلمونا على مسامعنا « بالعلم تحصنون مستقبلكم.. استفيدوا مما تقدمه لكم المدرسة من خدمة تعليمية مجانية.. العلم موسم مضمون النتائج ووفير المردود.. إلخ». والآن، وبعد أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من فوضى في الحياة ومن تسارع في التحوّل والتبدّل، وما صبغ حياة العالم بأسره من تناقضات وغياب للقيم لماذا بقي الإنسان السوري مجبولاً بهذه القيم التي يرى فيها البعض ضعفاً وتأخراً عن ركب العالم المتسارع بينما نرى فيها نحن السوريين ملاذاً وقبّة مباركة تقينا شرور أنفسنا وشرور الآخرين؟ ذات يوم من عام 2011 عام «الربيع الأصفر» وعام المؤامرات الكبرى على الشعوب العربية كنتُ في عاصمة مشيخة قطر في مهمة رياضية حيث كان منتخبنا يشارك في بطولة أمم آسيا، وفي تلك البطولة فاز منتخبنا على السعودية وما زلتُ اذكر كيف كان غيظ الوفد الإعلامي السعودي من خسارة منتخبهم وكيف أتوا يسألوننا: كيف تفوز سورية على السعودية وكنّا نردّ عليهم ببرودة أعصاب قائلين: إنها سورية، وجواباً على السؤال السابق نقول: استطاع الإنسان السوري أن يبقى قوياً دون أن يتخلى عن قيمه، وبقي على خلق كريم رغم كل المتاعب التي سُكبَت في حياته، وحافظ على أنفته وكبريائه رغم العواصف التي هبّت من جهات كنّا نتوقع نسماتها عليلة فقط لأنه سوريّ، ولأنه تشبّع برائحة ياسمين بلاده وطهر ترابه ولأن هذا الإنسان العربي السوري لم يقس يوماً قيمة وجوده بما يملكه من مال وإنما بما يحمله من علم وأخلاق وحبّ وانتماء ولهذا السبب قلنا لكلّ من عبث بهذه اللوحة الجميلة إنك لستَ منّا.. الإنسان السوري بهذه المكانة وبهذه الخصال هو مثل تلك البرتقالة ومثل تلك النبتة المباركة ومثل سنبلة قمح تعطي الحياة للآخرين على حساب موتها ويباسها وإن كان هذا «الموت» أو ذاك اليباس هو الحياة نفسها، سنابل القمح التي تنبت في البيوت وفي القلوب هي أهمّ بكثير من تلك التي تنبتُ في الأراضي على أهميتها وكل أسرة شهيد أو أسرة جريح أو مفقود سنبلةٌ تمدّ الحياة بأسباب استمرارها فبوركت تلك السنابل وبوركت حبّاتها التي تتسابق للبذل والعطاء في سبيل سورية السيّدة والتي من حضن ترابها استمدوا هذه الثقافة المختلفة عن أي ثقافة أخرى ولهذا أيضاً ستبقى سورية بإذن الله شاء من شاء وأبى من أبى... |
|