تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


التشكيل السوري من وحي الانتصار أبدع ألوانه

ثقافة
الأحد 7-10-2012
تماضر ابراهيم

تأثر الفن التشكيلي السوري بمجموعة من الأحداث الوطنية والقومية التي حدثت في وطننا الغالي والوطن العربي عامة، وهذا يبرر دخول العديد من المفاهيم المتعلقة بالنضال والكفاح والشهادة إلى لوحات الفنانين التشكيليين السوريين.

و لو بدأنا الحديث عن الانحسار الذي ظهر بعد نكسة 1967 حين واجه الفنان السوري واقعاً مأساوياً، بدا جلياً من خلال الأساليب الفنية التي ابتعدت عن التسجيلية والتجريدية آنذاك‏

واتفقت مع الصدمة التي عاشوها عموما، وبدا الميل إلى الاتجاه التعبيري الذي يهدف إلى رغبة الفنان في تجسيد انفعالاته وعواطفه ما جعل الأعمال جميعها تتصف بقيم تحويرية جامحة مع تنامي في المضامين المأساوية المثقلة بالمشاعر  الحزينة، وقد نذكر ممن برعوا فيها من الفنانين عبد القادر أرناؤوط ونذير نبعة ، أما خزيمة علواني فكان من أكثر الفنانين تميزا في دفاعه عن الجداريات متوجاً قناعاته بإنجاز جداريته المشهورة «معركة اليرموك»، بعد ذلك بفترة وجيزة ما لبثت أن اتخذت التعبيرية تلك شكلاً أكثر تنظيماً من خلال جماعة العشرة، وقد حدثني عنها معظم الفنانين ومنهم الفنان المبدع نشأت الزعبي الذي كان واحدا من أولئك العشرة، وقد استطاعت هذه الجماعة عبر معارضتها وحواراتها ونتاجاتها أن تترك بصمات عميقة جدا في سجل الحركة التشكيلية السورية.‏‏

لكل مبدع ثقافته وتراكماته الحضارية وحالاته النفسية‏‏

في عام 1973كانت حرب تشرين التحريرية التي تعتبر مثالاً ساطعاً في التعبير عن انتصار إرادة الشعوب في مواجهة القوى التي تحتل أرضها وتحاول استباحة سيادتها وثرواتها، وقد تشكلت هذه الحرب في نسيج الحياة اليومية لكل الناس أما الفنان التشكيلي صاحب الاحساس المرهف بشكل طبيعي التصق بالواقع الذي يعتبره جزءاً منه وغرق في الإحساس فشارك في هذه الحرب منذ لحظاتها الأولى في المراسم والصالات وعلى الحدود في المعركة ، حيث جلب بعض الفنانين صفائح معدنية من بقايا حطام طائرات العدو أبرزهم الدكتور علي السرميني الذي رسم لوحة « القنيطرة على أشلائهم « على جزء من جناح طائرة «فانتوم» اسقطتها وسائط دفاعاتنا الجوية في حرب تشرين، وهذه الفكرة كسرت تقليدية اللوحة الخاضعة لمنطق الرسم على سطوح قماشية او ورقية او خشبية، وفي قول للسرميني عن لوحته «استفدت من تجربة الفيتناميين ورسمت القنيطرة على حطام طائرة الفانتوم» وجاءت اللوحة بفيض من كل ما يعتمل في داخل الفنان من إرهاصات متباينة تسربت إلى سطح اللوحة بنوع من التلقائية النادرة المصاغة بلغة فنية مواكبة لتكون مدعاة فخر تحصد جوائز عديدة لصاحبها ولسورية الحبيبة .‏‏

الفنان الراحل غازي الخالدي أيضاعالج بلوحاته أكثر من ملحمة عسكرية وبطولية، وقد ترسخ التزامه بشكل خاص عبر معطيات لوحته الجدارية الضخمة «ملحمة حرب تشرين « كذلك الفنان علي الصابوني، والفنان النحات الراحل عدنان الرفاعي  أيضا الذي جسد ملامح السمو والبطولة في تمثال «الشهيد حسن الخراط» .‏‏

إذاً الفن انعكاس لزمان ومكان، قهر أو سعادة، أو رؤية معاشة .‏‏

معانٍ سامية لحرب تشرين‏‏

كانت معركة تشرين التحريرية محور التعبير حتى لسنوات طويلة تلت، مبتعدة شيئا فشيئا عن الانفعال والمباشرة وباسلوب حضاري يفيض بالبعد الانساني يسرد الأحداث كلها بروح جديدة وأساليب فنية متعددة وغنية بالمعاني الإنسانية والحيوية وقد انحاز الكثير من الفنانين في الحركة التشكيلية السورية لمثل هذه المواضيع وحاربوا بأدواتهم التي يدعموا بها النضال القومي ويلهبوا الهمم ويشحذوا قوة الشعب للتحرير والبناء.‏‏

تخليد أمجاد تشرين‏‏

تناول الفنانون في لوحاتهم عدة مواضيع منها بطولات رجالات الجيش السوري وتلاحم الجبهة الداخلية مع قواتنا المسلحة في التصدي للعدو الصهيوني .‏‏

وما زال بعض الفنانين يجسدون رؤيتهم الخاصة لهذه الذكرى سواء في النحت أو الرسم أو الخط العربي ومن مدارس مختلفة ليسطروا بألوانهم ملاحم تشكيلية تعبر عن حب كبير للوطن وجيشه وشهدائه الذين بذلوا أرواحهم فداء له ليبقى حصنا منيعاً في وجه أعدائه ومخططاتهم الدنيئة.‏‏

وربما جدير بالذكر الفنان النحات محمد أبو خالد والإشارة إلى مجموعة أعماله من وحي تشرين أحدها عمل عن «معركة تل الفخار»، وعمل عن «تحرير مرصد جبل الشيخ»، وآخر نصب تذكاري عن «الشهداء».‏‏

قال أبو خالد: « خلف أعمالي يكمن ألمي وقوتي وصوتي الرافض للاحتلال وكل أشكال القتل والتدمير والاعتداء على إنسانية الإنسان ونبله وطهارته.‏‏

وما زال في جعبة الفنان أبو خالد الكثير من الأحلام التي عاشها وشاهدها في حرب تشرين التحريرية حيث مازال يرتسم في مخيلته صور للعديد من شهداء تشرين .‏‏

صرح حضاري يحاكي شموخ قاسيون‏‏

ولعله هنا يقتضي الواجب أن نعرج إلى بانوراما حرب تشرين التحريرية :‏‏

ذلك الصرح التاريخي العظيم لما له من أهمية ودلالات ومعانٍ ، فهو شامخ  كشموخ قاسيون عند مدخل مدينة دمشق في أقصى الشرق بتصميم بنائي مستلهم من فن العمارة التي تبدو كقلاعنا العربية، وسط حديقة كبيرة مساحتها 62700م2 حيث يقع التمثال البرونزي للسيد الرئيس الراحل حافظ الأسد بلباسه العسكري .‏‏

وفي الحديقة الصرح المؤلف من قسم دائري وجناحين جانبيين ، القسم الدائري مقبب، وعلى طرفيه أدراج تصل الزائر إلى الجناحين ثم إلى منصة العرض البانورامي بالاضافة إلى ساحتين لعرض الأسلحة، ‏الأولى تتوضع فوقها بعض نماذج الأعتدة والأسلحة السورية التي اشتركت في الحرب والثانية لنماذج أعتدة وأسلحة إسرائيلية اشتركت في الحرب وتم اغتنامها .‏‏‏

في البهو السفلي الكبير الدائري حسب طراز العمارة الداخلية السورية فرشت الأرض بزخارف رخامية مستوحاة من الرقش العربي والزخارف .‏‏‏

تتصدر الجدار الجبهي من هذا البهو لوحة زيتية كبيرة تمثل القائد الراحل في الميدان .‏‏

إلى يمين الزائر لوحتان زيتيتان الأولى تمثل توحيد البلاد وتحالفها في الألف الثالثة ق.م بعد معركة إيبلا التي انتهت بتوقيع أقدم معاهدة سلام منذ بداية التاريخ.‏‏‏

الثانية تصور مجد تدمر وتبدو فيها ملكة تدمر وهي تخطب في مجلس الشيوخ وإلى جانبها ولدها وهب اللات والقائد زبداي .‏‏‏

وإلى يسار الزائر لوحتان جداريتان الأولى تمثل الخليفة الوليد بن عبد الملك وإلى يساره القائد موسى بن نصير ومعه طارق بن زياد،‏ يذكر في التاريخ أن هذا الحدث هو ذروة مجد العرب في عام 715 م، واللوحة الأخيرة تمثل صلاح الدين الأيوبي على حصانه وبين أعوانه يستقبل ملوك الفرنجة الذين قهرهم في موقعة حطين سنة 1187م ويبدو هذا المشهد التاريخي وخلفه قبة الصخرة المحررة والتي مازالت رمزاً لعروبة القدس وفلسطين.‏‏‏

تحرير مرصد جبل الشيخ‏‏‏

في الجناح الشرقي حيث ديوراما تحرير مرصد جبل الشيخ في 6 تشرين الأول عام 1973 ولمدة 8 دقائق يشاهد الزائر عرضاً يصور أبطالنا الذين اقتحموا هذا المرصد المنيع والخطير في خطة محكمة أذهلت العدو ويسبق الكشف عن هذه اللوحة إسقاط فني يمهد للوحة ويرافق العرض كلمة شرح وموسيقا ومؤثرات صوتية وأمام اللوحة مجسمات واقعية متممة للمشهد.‏‏‏

وعلى الجدار الأيسر لوحتان تمثلان قواتنا البحرية في الحرب ودورها البطولي .‏‏‏

وللوصول إلى منصة العرض وخلال 20 دقيقة جلوساً يتمتع الزائر بمتابعة مشاهد وقائع الحرب المرسومة على لوحة كبيرة امتدادها 130 متراً وارتفاعها 15 متراً وهي قطعة واحدة بمساحة 1950 م2 وعلى هذه اللوحة الدائرية رسمت صورة المعركة في مدينة القنيطرة وفي الجولان حتى تل الفرس .‏‏‏

في هذه المنطقة المحصنة دارت معارك تشرين الظافرة واخترقتها قواتنا المسلحة بكل تشكيلاتها ووصلت بعض وحداتها إلى سهل الحولة وبحيرة طبرية ويزيد من حيوية المشهد مؤثرات صوتية وشروح عن المعركة مع الموسيقا، في أسفل اللوحة شواهد عينية ومجسمات توحي بواقعية المشهد ومصداقيته.‏‏‏

هذا العمل الفني  قام بإنجازه عدد كبير من الفنانين واستمر إعداده أكثر من عامين .‏‏

جناح المجد والوفاء‏‏

صورة مستلهمة بمهارة وبراعة من روح تشرين في جناح المجد والوفاء لوحة كبيرة بمساحة 38 متراً مربعاً تمثل السيد الرئيس القائد حافظ الأسد مع الشعب في مسيرة التقدم والانتصار التي شاركت فيها أجيال آمنت برسالة أمتها وبقيادة أمينها وسارت في موكب احتفالي واحد معلنة عن الآمال التي تحققت وعن التطلعات التي تتابع تحقيقها.‏‏‏

وقسم هذا الجناح إلى قطاعات تجسد مراحل قائد الأمة والمسؤوليات التي تولاها وعظمة القائد الأسد كزعيم تاريخي استثنائي .‏‏‏

وبعدها نخرج إلى حديقة الموقع العام حيث نقف أمام لوحتين من النحت النافر على الحجر الأولى تمثل الشهادة في معركة ميسلون بطلها يوسف العظمة والثانية تمثل العمل والبناء في جميع الحقول مماتم إنجازه في عهد التصحيح المبارك.‏‏‏

‏هذاالصرح المعماري والفني الكبير استغرق إنجازه حوالي الست سنوات بمهارة عالية ودقة وبراعة مستلهمة من روح تشرين ومن وحي العمارة العربية الإسلامية .‏‏

على الهامش:‏‏

سؤال مشفوع بالفضول والغيرة على مبدعينا الذين نعترف بانجازاتهم الهامة عالميا وقد استلهموا تشرين التي خضناها قلبا وقالبا وعشناها بكل معاييرها، لماذا الفنانون الكوريون هم من نفذ الرسم في هذا الصرح الهام ؟؟؟‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية