|
إضاءات رجعت ثلاثين سنة ؟ لم يكن سؤالاً بقدر ما كان تعبيراً عن مشاعر نادرة أطلقها العرض السينمائي لمسرحية زياد الرحباني الشهيرة «بالنسبة لبكرا شو؟»، ولم يكن ابتكاراً،أيضاً، فمنتجو العروض سبقونا إلى الفكرة،حين قالوا في الإعلان الترويجي، إننا سنشاهد مسرحية بقينا نستمع إليها ثمانٍ وثلاثين سنة، كانوا صادقين فيما قالوه، رغم أن معظم الحضور من أجيال لم تكن قد رأت ضوء الحياة بعد حين عرضت المسرحية أول مرة، لكن ما يثير الدهشة هو أن تلقى مسرحية كل هذا النجاح والانتشار، على امتداد كل هذه السنوات، عند جمهور يصعب تقدير مداه، لم يشاهد المسرحية، لا على المسرح ولا في تسجيل تلفزيوني، وإنما استمع إليها فقط عبر أشرطة (الكاسيت) طيبة الذكر، وغير القانونية – غالباً – فزياد لم يصنع المسرحية للاستماع إليها، وإنما لحضورها، لكن الجمهور الراغب بمشاهدتها كان ولا يزال، أكبر بما لا يقاس من عدد المقاعد الذي أتاحه مكان العرض، رغم أن العرض استمر لثمانية أشهر دون توقف، كما أن القسم الأعظم منه لم تكن تتوافر لديه إمكانية حضور العرض في «بيروت» فقنع بالاستماع إليها عبر أشرطة (الكاسيت)، وبعض هذا الجمهور هو من جاء اليوم متلهفاً لمشاهدة التسجيل المصور للمسرحية، ليستعيد ذكريات قديمة جميلة، وليطابق، حتى دون أن يقصد، بين الصورة المتخيلة في ذاكرته للمشهد والممثلين، وبين ما كانوا عليه فعلاً. من جهتي اختلفت ثلاث شخصيات عما تخيلتها :(المعلم نجيب) فهو بذاكرتي شبيه بنادل القهوة في مسرحية زياد الأولى «سهرية»، و(الريس) أنور وقد تخيلته بالشكل التقليدي لأحد (الزعران) من (زلم) السياسيين اللبنانيين، و(الشاعر..) وقد كان صوته يوحي بعمر أكبر بكثير مما هو عليه في المسرحية، وبصرف النظر عن مدى التطابق، والاختلاف، بين الخيال والواقع، فإن بعضاً من عبقرية (زياد) يكمن في قدرته على إنجاح مسرحية عند المستمعين، وهي المصممة أصلاً للمشاهدة الحية، إلى حد رسوخها في ذاكرتهم، ثم الاستمتاع بمشاهدتها بعد نحو أربعة عقود ضمن شروط (تسجيل) فنية متدنية، بحكم أن أشرطة العرض المسرحي ما كان مقرراً لها أن تعرض للجمهور، فهي أساساً لم تصور لهذه الغاية، وإنما لمراقبة أداء الممثلين، وزياد واحد منهم، من قبل المخرج (وهو زياد نفسه) الذي لم يكن، بطبيعة الحال قادراً على فعل المراقبة أثناء التمارين والعروض لأنه كان حينها مشاركاً بالتمثيل. «بالنسبة لبكرا شو؟» هي ثالث مسرحية لزياد، عرضت عام 1978، بعد مسرحية «سهرية» عام 1973 ، و «نزل السرور» عام 1974،أي بعد أربع سنوات من مسرحيته السابقة لها، وربما تكون «بالنسبة لبكرا شو؟» أكثر مسرحياته نضجاً ونجاحاً وانتشاراً، فقد اختار أن يقدم الوقائع اليومية داخل (بارٍ) في شارع الحمراء ببيروت، حيث يجتمع رجال أعمال ووسطاء ومثقفون وزوار أجانب ليشير بأسلوب مرح ساخر إلى الاستغلال والمعاناة اللذين يتعرض لهما صغار العاملين فيه، كنموذج عن العاملين في القطاع الخدمي السياحي، القطاع الأوسع الذي يقوم عليه جزء مهم من الاقتصاد اللبناني. كان هذا الخيار حجة بارعة لمبدع يساري لكي يعرض موقفه من نظام اقتصادي واجتماعي استغلالي، موجهاً نظر المتلقي إلى آثار هذا النظام على البنية النفسية لصغار العاملين في أحد أكثر مجالات العمل الاقتصادي - الخدمي امتهاناً لكرامة وإنسانية العاملين فيه، وفي الوقت الذي تحكي فيه بعض الأدبيات اليسارية عن هؤلاء على أنهم الشريحة (الرثة) من الطبقة العاملة (المجيدة)، بما يتضمن ذلك من إدانة مبطنة لهذه الشريحة، فإن تغّلب (الفنان) في زياد على (المفكر) دفعه للتعاطف مع هذه الشريحة بدل إدانتها، و بالمقابل إدانة الحال الاجتماعي – الاقتصادي الذي يتسبب بتشويه إنسانيتها. لا يكفي وصف زياد بأنه سليل البيت الرحباني لتفسير موهبته، فليس من الجيل الرحباني الثاني من هو في سوية عبقريته، زياد إن كان قد تابع بنكهته الخاصة، مسار تجربة (الأخوين رحباني) في مجالي التلحين والشكل المسرحي، فإنه قدّم حالته الفريدة في مجال النص الغنائي والمسرحي بآن معاً، بحيث كان هنا امتداداً لتجربة (سيد درويش) أكثر من كونه استمراراً لتجربة (عاصي) و(منصور)، وقد وُجِد من يصنف أغانيه في عداد (كلاسيكيات الأغنية الشعبية)، التي تكاد تكون كلاماً محكياً اعتيادياً، لكنه ملحًنٌ ومغنى، وهذه المقدرة على النفاذ إلى الحسّ الشعبي وتقديمه برؤية فنية متطورة هي بعضٌ آخر من جوانب عبقرية زياد. وهي أيضاً بعض ما يفسر قدرة عمل مسرحي أنجز قبل أربعة عقود على الاحتفاظ بهذا الكم الكبير من الإمتاع و التفاعل. www.facebook.com/saad.alkassem"> www.facebook.com/saad.alkassem |
|