|
دراسات سياسية هي فن الموازنة بين المضمر والمعلن, ويبدو أن الرئيس بوش ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس برعا في هذا الكار, لكنهما مع ذلك, عندما يتعلق الأمر بإسرائيل, فكل شطارتهما لا تسعفهما على الانضباط بأحكام هذه القاعدة. والرقص على المفردات يتحول حينذاك إلى انحياز مفضوح ضد الفلسطينيين. قبل أيام قليلة, وبالتحديد عندما زار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس البيت الأبيض, استبعد الرئيس الأميركي جورج بوش إقامة دولة فلسطينية مستقلة قبل نهاية ولايته سنة ,2008 ورفض فكرة وضع جدول زمني لإحلال السلام في المنطقة. وكرر مطالبة الرئيس الفلسطيني بمواجهة خطر ما أسماه (العصابات المسلحة). ومع أن بوش أكد التزامه رؤيته السياسية المبنية على التعايش السلمي بين دولة فلسطينية و(اسرائيل) إلا أنه رأى أنه لا يمكن تحديد موعد قيامها لأن طريق السلام ستتخلله (لحظات تقدم ولحظات نكسات) وقال:( سألت عما إذا كنت أرغب في رؤية الدولتين قبل نهاية ولايتي. هذا غير صحيح. أرغب في رؤية الدولتين, وإذا حصل ذلك خلال ولايتي سوف أكون شاهداً على ذلك خلال الاحتفال, وإذا لم يحصل ذلك, فإننا سنعمل بجهد لوضع الاسس كي تصير العملية غير قابلة للتراجع) الرئيس محمود عباس وجد نفسه في الزاوية, ولم يكن أمامه سوى إعادة التأكيد على عدم شرعية الاستيطان, وعلى عدم التراجع عن هذا الموقف. لكنه ابتعد عن توجيه أي انتقاد لهذا الموقف الأميركي الذي من المفترض أنه يتعارض مع خارطة الطريق ومع وعود واشنطن. ومن قراءة المواقف الاسرائيلية والأميركية التي أطلقت أثناء الزيارة, مع عطفها على الواقع الاسرائيلي والأميركي والاستهدافات الاستراتيجية لكل منهما في ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية تحديداً, يمكن تسجيل الآتي:تهتم الإدارة الأميركية أساساً باستراتيجيتها في المنطقة, وتسهيلاً لهذه الاستراتيجية يجب الوصول إلى تهدئة على الساحة الفلسطينية لاستكمال الترتيب الأميركي في مواقع أخرى, باعتبار أن مواصلة عدم الاستقرار في هذه الساحة يصعب على الأميركيين ترتيباتهم.. من هنا كان الطرح الأميركي المتمثل بالدولتين الاسرائيلية والفلسطينية, على أن تكون الدولة الفلسطينية اسماً لكيان لا يتعارض مع المصلحة الاسرائيلية, أي كيان لا يترافق مع حل للقضايا الخلافية: الاستيطان, الحدود, اللاجئون والقدس.. وهو ما يعبر عنه بدولة مؤقتة (دون حدود), باعتبار أن هذه الدولة تتيح للأميركيين القول إن الصراع الفلسطيني الاسرائىلي قد انتهى. وعليه, فإن هذه الأسس تكون قد تخطت كل الخطوط الحمراء, وذلك للأسباب التالية: 1- من المعروف أن قرار قبول(اسرائىل) في الأمم المتحدة في أيار 1949 مرتبط بتنفيذها لقرار الأمم المتحدة الصادر في 11 كانون الأول ,1948 والذي يقضي بالسماح في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم بأن يعودوا إليها, مع دفع تعويضات عن ممتلكات الذين لا يختارون العودة أو عن الإضرار التي لحقت بهم. والمعروف أن حق العودة غير قابل للتصرف طبقاً للقانون الدولي. 2- في تصريحاته, قال الرئىس بوش: إنه في ضوء ما سماه (الحقائق الجديدة) على الأرض, بما في ذلك المراكز السكانية الاسرائيلية الكبرى, فليس من الواقعي أن تؤدي مفاوضات الحل النهائي إلى عودة كاملة لخطوط هدنة عام .1948 ومن خلال هذا الخطاب المراوغ يشير بوش إلى المستوطنات الاستعمارية في الضفة الغربية من طرف خفي ويرى استحالة فكها, ما يعني تجاوز إحدى الخطوط الحمراء التي التزمت بها الإدارات الأميركية السابقة مما كفلها القانون الدولي. فقرارا مجلس الأمن رقم 242و 338 يقران بحدود عام 1967 وبأن الوجود الاسرائىلي في أراضي ما بعد حزيران 1967 هو سلطة احتلال, كما يقر القانون الدولي بأن الاحتلال وجود مؤقت وليس دائماً وأن إقامة المستوطنات في الأراضي المحتلة أمر غير شرعي. 3- ثمة تقبل أميركي كامل للمنطق الاسرائىلي الخاص (بخلق حقائق جديدة على الأرض) من خلال القوة العسكرية, ثم ضمان بقائها واستمرارها من خلال مزيد من القوة, ففي الوقت الذي تقوم فيه (اسرائىل) بنزع الأشجار وتجريف الأراضي وهدم المنازل وقتل الأطفال واغتيال القيادات السياسية الفلسطينية وهدم البنية التحتية للسلطة الفلسطينية, يطرح بوش رؤيته انطلاقاً من الحقائق الجديدة التي فرضها الاحتلال الصهيوني, ما يؤكد القبول الكامل للإرهاب المؤسس الصهيوني. 4- التخلي عن صيغة (الأرض مقابل السلام) لتحل محلها صيغة ( التفاوض مقابل التجميد التام للإرهاب) وقد علق فاسغلاس, مستشار شارون على ذلك بقوله: (عندما تحدث شارون قبل 6 سنوات عن أننا لن نتفاوض أبداً في ظل إطلاق النار, أثار موجات من الضحك, واعتبرت كلماته شعارات مغرورة لشخص بعيد عن الواقع. أما اليوم فقد أصبح رئيس الولايات المتحدة نفسه يسير على هذا المبدأ). وهذه الأسس الجديدة للسياسة الخارجية الأميركية من شأنها أن تفقد الولايات المتحدة دورها المزعوم كوسيط محايد نزيه, ومن ثم فالرهان على هذا الدور مرة أخرى هو رهان العاجزين. وهنا يطرح السؤال نفسه:ماالذي دفع بوش لتجاوز كل هذه الخطوط الحمراء مرة واحدة دون اكتراث بالرأي العام العالمي والأوروبي العربي?! للإجابة على هذا السؤال يمكن طرح الأسباب التالية: أولاً: بنيت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط على أساسين, أولهما الحفاظ على وضع التجزئة والتعامل مع كل بلد عربي على حدة, وليس باعتباره جزءاً من كتلة اقتصادية حضارية واحدة, ولهذا أصرت ( اسرائىل) ألا يتم التفاوض بينهما وبين الدول العربية مجتمعة بل أن تتفاوض مع كل دولة على حدة, وهو ما تحقق في كامب ديفيد, وهذا يعني في واقع الأمر اسقاط البعد العربي تماماً. أما الثاني فهو أن الوضع الأمثل للولايات المتحدة في العالم العربي هو مايسمى ب( الفوضى البناءة) أي أن تكون هناك حالة عدم استقرار دائمة ولكن يمكن التحكم فيها, إما بتصعيدها أو تهدئتها أملاً في فرض الهيمنة الكاملة, وما غزو العراق ومحاولة تطويق العالم العربي استراتيجياً من داخله و خارجه بسلسلة من القواعد العسكرية, والحديث عن ( الاصلاح السياسي) إلا جزءاً من هذه السياسة الجديدة. ثانياً: لم تعد الولايات المتحدة تخشى من تأثر مصالحها بسبب انحيازها إلى (اسرائىل) ذلك أن رد الفعل العربي يأتي دائماً باهتاً ويقتصر على مجرد إلقاء بيانات الاعتراض, وليس حتى الإدانة, بعد أن تأكد الخضوع العربي الرسمي للولايات المتحدة عسكرياً واقتصادياً. ثالثاً: ترى الولايات المتحدة أن ( اسرائىل) هي أداتها في الشرق الأوسط, ومن هنا دعمها الاقتصادي والسياسي والعسكري لها, وتحالفها الاستراتيجي معها. وقد باءت بالفشل محاولة بعض الدول العربية أن تطرح نفسها بديلاً ل( اسرائىل) كأداة للهيمنة الأميركية, لأسباب عديدة من أهمها أن الولايات المتحدة تعرف أن النظم الموالية لها في العالم العربي مهددة دائماً بالسقوط أمام الغضب الجماهيري العربي. مرة أخرى يصح وصف تصريحات بوش بأنها ( وعد بلفور جديد) وهو بلا شك وصف دقيق, حيث يضع تصريحات بوش في إطارها الاستعماري الغربي الأوسع. |
|