تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ليس بعد

رسم بالكلمات
الأثنين 10/11/2008
شعيب إبراهيم

خرجنا قبل أن تعبق رائحة قميصي المغسول بالفرح, أحسست بها قبل ندى الصباح وفنجان القهوة الذي تشعرني مرارته بطعم الضحكات المسروقة من أوقاتنا...

بلفتات مجنونة أوقفنا الحافلة, صعدنا وأنفاسنا تلهث مع شدو فيروز الذي لا يمت لعالمنا بصلة..‏

كانت صديقتي آنذاك متوترة, كلما أوقفت الحافلة شرودها, تنظر إليَّ مذهولة مستفهمةً: ألم نصل بعد?‏

فأشيح بوجهي عن شموسها الغاربة لينعكس صوتي في بحور عينيها (إنه ليس بعداً).‏

فجأة توقفت الحافلة, صعدت أمٌ وطفلها الذي مزق بكاؤه سكون المكان, فاختلطت أناته بأنيننا, وضاع صوت فيروز.. عندها فقط أدركت الطريق, وعدت مترجلاً أبراج أحلامي التي هدمها الزحام..‏

عدت أترقب وصولنا الموعود الذي تبعدني عنه رائحة الحبق, وتحملني أراجيحه, تقذف بي على شواطئ الذكرى, فيتلاشى بكاء الصغير, وتغيب الوجوه, وتغزل منعطفات الطريق أمامنا مرارة الحقيقة, بحثت أنا وصديقتي عن أقنعتنا, لكننا هذه المرة لم نجدها في حقائبنا المغبرة.. هل تسللت منا? هل كسرتها الأرصفة? أم إن دموع الشك واليقين قد أذابتها?‏

البارحة كانت الحلوى شهية, مذاقها مختلف عن أي مذاق لأنني وللمرة الأولى أمسك بمقبض حافلة في إسدالة ليل المدينة, المكتظ بجمهرة الأشرعة المسافرة في عبق الياسمين, أجل كان الياسمين يمتلك أحاديثنا بعبراته البيضاء المتساقطة من فصل السماء فتغسل شرفاتنا من بصماتنا الدنيئة..‏

إن عصافير تلك الشجرة ونجومها تحاول أن تمرغ نظراتنا السوداء بوحولها البيضاء فتبتعد الحافلة وتطول الدروب التي تنهبها صرخات ذلك الطفل المستغيثة.. مع أن صديقتي لم تلتفت إلي متسائلة, لكن شيئاً ماجعلني أدرك, أننا وصلنا.. قبضت على رياحيني بيد من ماء وعلى صديقتي بيد من نار ونزلنا نتلمس القضبان إلى حافلة أخرى تقلنا إلى هجير أمانينا النائمة.. أما صديقتي فلا تزال تسألني إن كنا قد وصلنا فترتجف أجفاني الرمادية : ليس بعد.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية