تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


على شفا قبلة

رسم بالكلمات
الأثنين 10/11/2008
رنا أتاسي

في لحظة هاربة وجدت نفسها تنأى عن كل ماحولها, وتحتجز في داخلها مكاناً لشيء شديد الخصوصية.. شيء بدأت روحها تستحضره لسبب ما ومنذ دخولها إلى المقهى.

هي لحظة بدا كل شيء حولها دمى متحركة.. صغيرة وكبيرة, واحتلت نظراته الأبعاد المكانية كلها حتى تسللت أطيافها شيئاً فشيئاً إلى عالم مشاعرها المغلق, البارد, لتتوهج أطرافها دفعة واحدة, وتقفز إلى ذهنها فجأة صور مضى عليها عشرون عاماً وتصبح أمام ناظريها.‏

المكان: بحر من الشغف يلوح لعاشقين صغيرين يقفان على الشاطئ ولايملكان جرأة الغوص ولا وسيلة الإبحار.‏

الزمان: ليلة من الهمس تسابقت فيها النجوم تحاول أن تسترق السمع إلى العاشقين.‏

طال انتظارهما في ذاك المساء, وطالت لحظة الوداع, وتزاحم العابرون على تلك الليلة التي حجزت مقاعد لديها لكل الأحداث.. لكل الأشياء.. لكل الناس وتركت عاشقين خارج الوقت يقفان على شفا قبلةً قد استحال اقتطافها واستحال التورط في مفرداتها أو الاقتراب من أسوارها.‏

ومابرح ذلك القادم الغريب... القريب البعيد ينظر إليها.. يضطهد مشاعرها, ازداد اشتعالها.. وازداد توهج أطرافها, فقررت أن تمنح نفسها شيئا من البرودة.‏

انطلقت تسير في أرجاء المقهى الكبير تبحث بلهفة عن صنابير المياه.. وأمسكت بمفتاح أحدها... أدارته إلى النهاية. ووضعت كفيها تحت الماء المتدفق وألقته على وجهها وشعرها, شعرت أخيراً بشيء من البرودة في ذاك الجو التموزي الملتهب. تنفست الصعداء.. تأملت النجوم والقمر من حولها وهمت بالعودة إلى طاولة الصديقات, لكن فجأة وإثر مسير بضع خطوات انقطع التيار الكهربائي. وغدا طريق عودتها حالك الظلمة. أخذت تتحسس الأشياء من حولها بكثير من الحذر نظراً لازدحام المقهى بالمصطافين والغرباء, تابعت طريقها بحذر شديد, ومازال الناس في هرج ومرج وفوضى يتلمسون طريقهم بصعوبة خشية الاصطدام. لكن فجأة شعرت بيد تجذبها من ذراعها بقوة وقبل أن تصرخ أو تتفوه بكلمة أو تدافع عن نفسها وضع كفه على فمها وضغط عليها بطريقة كادت تكتم أنفاسها. حاولت أن تخلص نفسها من ذاك المعتدي المجهول.. حاولت الإفلات من تلك القبضة الحديدية بكل الوسائل.. حاولت كبح جماحه لكن عبثاً, فقد كان يحيطها بذراعيه.. يلف خصرها. يجذبها إليه متحكماً بكل أبعاد جسدها النحيل.‏

شيئاً.. فشيئاً أخذت تفقد قوتها, وشعرت بالخدر في أطرافها تحت تأثير تلك الرائحة التي تعرفها جيداً, والتي طالما حلمت بها. وبدون أن تدري وجدت نفسها تفقد التحكم بجسدها, ثم فقدت التحكم بأبعاد ثغرها الذي تابع الغوص في بحار قبلة من مد وجزر إلى مالا نهاية.. واستسلمت لانصهار لذيذ وتوحد سحري حل محل الإقدام والإحجام. خلصت نفسها أخيراً من تلك الهاوية الجميلة الموجعة, وانتزعت جسدها من بين ذراعين إثر عودة التيار الكهربائي إلى إشعاعه السابق.‏

استعادت رشدها أخيراً وتابعت مسيرتها. وصلت الطاولة حيث الصديقات في صخب ومرح, جلست على كرسيها تستعيد مكانها بينهن.. نظرت أمامها لتجده في مكانه خلف طاولته ينظر إليها بشغف, أخرجت مرآتها.. تأملت وجهها.. تسريحة شعرها أحمر الشفاه وتابعت ماتبقى لها من العمر .. ماتبقى لها من الألم.. من العطش ومن فراغ المفردات..‏

وعادت مرة أخرى على شفا قبلة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية