تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


غياب مرئي

ثقافة
الاربعاء27-4-2016
سبيت سليمان

مساء يوم قمري نهاية شهر نيسان البارد الممشوق بقليل من الدفء عله يسابق الغمام كي يخلع سترته الصوفية ويرتدي عباءة الصيف من شهر أيار الدافئ، لينثر حبه في قلوب سكن الثلج مضجعها.

وفي نحو الساعة السادسة مساءً أخذت الغيوم تلملم أطرافها وتفسح المكان لرفيق دربها كي يسامر أصدقاءه، في تلك الليلة القمرية تربع البدر جوف السماء، ضاحكاً بصمت تارة.. وحزيناً تارةً أخرى.. حابساً أنفاسه بين طيات الغيوم.. مرسلاً ضوءه من بين أهدابه...متسللاً بين غيمةٍ.. وأخرى.. مبعداً ثقل سوادها ليرسل نوره إلى ذاك الشباك الذي تجلس فيه تلك الجدة التي تقص حكاية لحفيدتها الصغيرة التي نما فيها نسغ العشر سنوات.. بين ضحكة هنا.. وسؤال هناك.. ودمعة ترسم الشوق والحنان على وجهٍ طال السفر به متسائلاً، عن معنى الغياب.. معنى السفر إلى السماء.. معنى الحرمان من رؤية الأب والتمتع بدفء حنانه.. والعيش بكنفه.. فظله لا يساويه ظل.. منتظرةً جواباً يأتيها فارداً أجنحته فوق غيمة سحاب مثقلاً بالحب والعطاء، لتنهمر فوق الوجنات الصامتة التي حبست الدموع والحنين إيماناً منها أن البسمات تعود مع طيات الغمام، وعبر أثير ضحكات الأطفال، ووردة في شرفات الأمهات الثكالى، وصباحاً يمزق ثوب الظلام.‏‏

ذاكرة تحتوي عيوناً دافئة، ولمساتٍ أبويةً لا تترجمها القواميس ولا تدركها الكلمات والتفسيرات، ودعوات لا تفصلها ولا تقف أمامها حدود السماء، وسهرات ليال دافئة ملؤها الحب والحنين، ممشوقة بدفء ورعاية الأبوّة، تطفئ حرارة الجسد من الحمى والنفاث والرشح، محضرةً كأس ورود من الزهورات واليانسون وقطعة من القماش المبلل تساند جبيناً محمى علّها تخمد حرارةً استعذبت نسغ الطفولة ورقة الجسم النحيل.‏‏

عيون خضراء تحتوي عمق الذاكرة، تحتوي زنوداً سمراء ملفوفة بورق السنديان، تصارع الريح والعواصف كي لاتقترب من نسغ الطفولة، جسد تطاول ليسبق المتر والثمانين رشاقةً، جسدٌ نصب نفسه عموداً يعانق سقف البيت ألا يقع.‏‏

ذاكرة تحتوى صوراً وضحكات ومسرات وقبلاً أبوية، واراجيح بين حديقة وتحت ظل الزيزفون، يمسك القلم وتُفتَح الدفاتر ويتساقط الياسمين بين طيات الورق.. اقرئي بابا.. ماما.. دادا.. علمي مرفوع.. وطني مصون.. شمسي أبية.. سمائي عصية... اقرئي يا طفلتي مفردات وتعابير وطنية.. احفظي الهوية.. صوني ذرات التراب الندية.. اقرئي يا ريم أن الحياة الأبية لا تخْضَرُّ إلا من أيادٍ عانقت كتف الجبل والسهل، ومشت على هدي الجدِ والسلف، وأدركي يا ريم أن السماء لا تصان إلا بالنسور العلية، اعشقي يا ريم الكرامة والإباء، أحبيها! فهي للعهد وفية! لا تسألي عن الغياب فهو في السماء مرئي، صحيح أن الغياب يثقل القلب الضنين ويعتق رؤية الهوية، فقلب الغائب يحيا فوق الغيم سرمدياً، لا تبكي يا ريم! فالحياة برهة بين أيدي الله جلية.‏‏

بابا... لا تخافي وكوني قدوة في مسك القلم.. وفي متابعة الدرس وحفظ الحدود ومعرفة العدو من الصديق، ادرسي.. اجتهدي.. وتابعي سبل العلم والمعرفة.. لا تتراجعي.. في صعود السلم، فهو متين، بني من أغصان السنديان وزنر بورق الصفصاف، وسُقيَ من ماء الأطهار.. اصعدي يا ريم فالطريق طويلة والعنقاء مثلك، والخنساء أمك، لا تجزعي.. يا شبلة الأسود.. ولا تعدي عدد الأيام، التي تُغيِّب الأب عن بريق عيني ابنته... فالوطن يكتنز هذا الغياب.‏‏

ذاكرةٌ تحتوي البزة العسكرية.. والهندام الذي يتلون.. بلون التراب والخضرة النقية، يقف أمام المرآة، يمشط الشعر.. يضع النجوم.. فوق الكتف.. ويربط العنق بدعوات الجدة ودموع الأحبة.. مهلاً.. فالمرآة لم تغر منك.. والدار مصهوجٌ بصوتك.. وضحكتك تملأ الفضاء بهجةً، ومشيتك تهز الأرض.. فرِحةً.. مسرورةً.. بأن الفرسان يتقاسمون حراستها.. مهلاً يا أبت ويا نور عيني، فالسيدارة مازالت تنتظر هامتك.. لتتزين بعنفوانك.. وتعتز بعزيمتك.. أبت مهلاً.. فالورود في صحن الدار تتلهف إلى لمساتك.. إلى حنانك.. فهي تعرف من روى جذر قامتها.. وحمى مفردات ترابها..‏‏

مهلاً يا أبت! فعمري مازال صغيراً.. والنسغ ما زال طرياً.. والعيون ما زالت تحب اللون الأخضر.. وتحب التسميع بالدرس.. والنوم فوق الزند.. وتفتيل الشعر.. مهلاً! يا أبت...‏‏

لا تقولي مهلاً يا ريم.. فالتراب يصرخ.. والأشجار تستجدي من يرويها.. والسماء غلب عليها الغمام الأسود، والورود تقطف قبل أوانها.. والمياه تسرق من ينابيعها.. والشيوخ تكسر عكازاتها.. والأمهات الثكلى علت أصواتها.. والعلم الأبي يبغون تغير ألوانه.. والحدود تُغزا لتمزيقها.‏‏

لا تقولي يا ريمُ مهلاً بل قولي بعون الله شد الأحزمة! يا أبت.. وارصص صفوف الحب.. ونظم الرتل.. ولا تتمهل يا أبت.. وضع يدك على الزناد في وجه كل معتدٍ! وصِنِ الهوية.. وارسم خريطة النصر، ضع سياجاً فوق الحدود من الدم، والعز والفخار.. فالياسمين لا يستطيع العيش بدون.. غرس شقائق النعمان.‏‏

فالغياب مرئي في نسج الهوية.. يا أبت.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية