|
ثقافـــــــة نعم لتكن أياً كانت الأسباب فإن قراءة لشاعر الهند الأول طاغور تعيدك إلى تاريخ يثرثر كثيراً لكن عملية الفرز تبقي الجيد وتهمش الرديء أو تلغيه. ليس الهروب إلى طاغور -شاعر الهند- هروباً من الفوضى والقلق إلى عالم الرومانسية والانعتاق من الواقع إلى عالم الحلم والخيال والانزواء في عالم من الزهد والتأمل فهو يقول: ليس الخلاص في الزهر إنني أشعر بضمة الحرية في ألف رباط من اللذات، لا، لن أغلق أبواب حواسي إن لذات البصر والسمع واللمس سوف تنتظم لذتك أجل إن أوهامي سوف تحترق في ألقة الفرح وإن رغباتي كلها سوف تؤتي ثماراً من الحب. إن ما نفتقده في عصر الماديات والحروب والصراعات هو الفنون والآداب الإنسانية وإن اللحظة التي تطلق فيها طلقة نارية كفيلة بإشعال نار تقضي على الموسيقا والشعر والفلسفة لكن هذه الفنون تبقى حية في نفوس حاملي راية هذه العلوم فعندما تعرضت بلاد طاغور للاستعمار قال: «هناك حيث لا يلابس الفكر خوف ويكون الرأس متلعاً إلى العلاء هناك حيث تكون المعرفة حرة هناك حيث لم يجزأ العالم بين حواجز ضيقة مشتركة هناك حيث لا يضل العقل النير في الصحراء الموحشة من العادات البالية أجل في نعيم الحرية أبتاه دع وطني يستيقظ». سماه والده رابندرا تيمناً منه بأنه سيشرق كالشمس لأن ترجمة الاسم تعني الشمس، وقد مرت في حياته الخاصة وعلى بلاده ظروف قاسية حيث ماتت أمه وهوصغير في التاسعة من عمره كما ماتت زوجه وابنه ووالده في فترات متقاربة وعانى مرارة وقسوة الحياة بفراق من أحبهم، لكن معالجته الأدبية في الشعر والرواية والموسيقا توحي بشخصية قوية قادرة على المواجهة فهو لم يكن صداحاً مداحاً في أوقات السلم ولا عنيفاً نارياً في أوقات الاستعمار والحرب وإن جملته عندما قال: «أبتاه دع وطني يستيقظ» إنما دليل على أنه لا يعطي لوطنه الذرائع بل يضع اللوم عليها لأنها سمحت لأحد باختراقها وسلبها حريتها. ويستند القوام الفكري عند طاغور على مفهوم المحبة لمجرد أن الإنسانية تتواصل وتستمر بالحب فيقول: «إن قلبي لن يجد سبيله نحو من ترافقهم بل نحو من لا رفيق لهم بين الفقير والحقير والضائع» وهو يحب الكون ويشغف به حين يتحد معه في كل واحد: «إن نهر الحياة نفسه الذي ينساب في عروقي ليل نهار هو الذي ينساب في الكون ويرقص على إيقاع موزون. إن شباب الأرض والماء يسمو في قلبي كأنه بخور ولهاث الوجود كله يتردد ضمن أفكاري كما يتردد في ثقوب الناي». هل لنا اليوم بشعراء الرسالة الفكرية التي ينبعث منها النبل والصفاء وينادون بها لمصالحة البشر مع ذواتهم قبل أن يتصالحوا مع غيرهم ويهبون الحب لأنفسهم قبل أن يهبوه لغيرهم ولأن طاغور لا يريد أن يكون الحب نزعة عارضة عابرة بل حب ندي مستمر. هب لي ذلك الحب الذي يود أن ينفذ إلى أغوار الوجود ثم ينساب نسغاً خفياً في أغصان شجرة الحياة ليبعث الثمار والأزهار. ثم لا يكتفي طاغور بالشعر لأن الموسيقا تعني له الكثير ومن الموسيقا تستمد الطاقة على التجديد في الحياة وقد أتاحت إقامته في لندن أن يستمتع بالموسيقا الغربية فأعجب بها وأفاد منها في تلوين أغانيه التي وضع أكثر من ثلاثة آلاف أغنية في الأرشيف الهندي وكان طاغور يعتمد على ابن أخيه بعد أن امتد به العمر ويقول في الموسيقا: «إن الموسيقا هي أنقى أشكال الفن وهي أقرب تعبير عن الجمال وإننا لنشعر أن إفصاح اللانهاية في الأشكال المحدودة من الخلق هي الموسيقا نفسها تنساب صامتة ظاهرة. إن السماء الداجية التي تحصي النجوم دون ونى شبيهة بطفل مشدوه بكلماته الأولى المبهمة لايني يردد لفظة واحدة ويصغي إليها بفرحة لا تنضب. كان الفكر المتأمل والفلسفة القائمة على المحبة والشاعر الذي ألف هدهدة أسماع الكون بقصائده بمنطق هادئ يخاطب العقل والقلب هو من بقي يقرأ بعد أكثر من مئة عام فهل نقول: عصر ومضى!! بل إن القيم التي يهزأ بها البشر اليوم كالمحبة والتآلف والتأمل هي من سيعيد للكون توازنه نسوها أو تناسوها لكن لابد من السؤال: هل تنتج البشرية كل مئة عام إنساناً شاعراً كطاغور أو موسيقياً كموزارت أو.. أو..؟ هل يكفي شخص واحد كل مئة عام؟ ما أحوجنا إليهم في كل يوم!!. |
|