تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ذكرى لقاء

ملحق ثقافي
2018/10/30
ميسون عيسى

سحب جريئة تختال في سماء رمادية، ويبدو في هذا النهار قلق انتظار، وأسئلة كلّما أمعنت في تجاهلها تزيد من إلحاحها، وجوه ومطارح قديمة تطلّ من خلف زجاج نافذتي.

خرجت الى الشرفة مع كتاب.. لا شيء سوى شجيرة الياسمين وحيدةً تتسلق الجدران، تبدو على أوراقها صفرة خفيفة، وتحصد نجومها النسمات منذرةً برحيلٍ الى موعد مؤجل.‏

فجأةً جاء صوتها وكأنه من بين دفتي الكتاب «سماء تشرينية.. ما أحلاها!»، وبحركة لا إرادية نظرت الى أعلى..‏

قوافل من الغيوم البيضاء المكتنزة تركب الريح وتغدو أمام قرص الشمس، وهو يبدو لطيفاً وديعاً يغمز ويتخفى بدلال، ليفرش الظل جناحيه على الشرفة، وأمي ما تزال واقفة تحمل في يدها صينية عليها فنجان قهوة وسكرية شفافة، تناولتُ فنجاني لأضعه على حرفٍ جانبي، وانشغلت هي بتفقد نباتاتها وزهراتها العزيزات متوجهةً اليهن بصوت خافت فقد اعتادت هذه المكاشفة كلما خرجت إليهن.‏

رجعت إلى كتابي وكنت أقرأ في مقدمة المجموعة الشعرية تعليقاً للشاعر على كثافة الحضور في إحدى أمسياته يقول: «لا أعلم لماذا يأتون.. لست جميلاً.. ولست أجيد الكلام، ومن الأفضل لهم قراءة كلماتي من سماعها، كما أنه من الأفضل لهم أن يسمعوني من أن يروني..».‏

فكّرت!.. وهل يمكن لصانعي الجمال ألا يكونوا جميلين؟! إنه ذات المشهد السماوي، وذات السؤال.‏

قبل الحرب.. لم تكن السعادة معادلة مستحيلة الحل، كان يكفيني وضوح الصباح وأغنية فيروزية وأجرة الحافلة، لأتنقّل برشاقة في هذا الكون الجميل آخذةً طريقي إلى الكليّة، لأجده بانتظاري عند الباب.‏

بريق عينيه وابتسامته من بعيد تشتل في قلبي زهراً وتُنزل مطراً وتطلق فيه الحساسين، تحوله الى غابة فرح.‏

هو يسبقني بعام، وها نحن نجلس على مقعد في حديقة الجامعة بين محاضرتين أو لنقل بين زمنين.‏

- هل تعرفين؟ اليوم عيد ميلادي.‏

- حقاً! عيد سعيد.‏

-تعلم؟ أحمل معي شيئاً لك..‏

أخرجت من حقيبتي شريط للسيدة فيروز.‏

-هل ترى مثلي أن صانعي الجمال لا يشيخون أبداً؟‏

-قد ذكرتني بما كتبه عنها الشاعر أنسي الحاج «ليتني أستطيع أن ألمس صوتها، أن أحاصره وألتقطه كعصفور، كأيقونة»، نعم أوافقك تماماً فمجرد مناقشة هذا الأمر تعد خيانة للجمال.‏

ساد الصمت برهة ونظر في عيني مبتسماً ثم قال:‏

-هل تعتقدين أننا نستطيع أن نبقي أصوات من أحببناهم معنا دائماً كأيقونة؟‏

ضحكت وقلت متهربة من الإجابة:‏

-الجواب عند السيدة فيروز.‏

أخرج كتاباً من جيب سترته وقال:‏

-جئت لأودعك، أنا سألتحق بالجيش.‏

مددت يدي بشرود لألتقط زهرة ياسمين كانت قد سقطت واستقرت على كتفه الأيمن، ثم تناولت الكتاب ووضعتها بين صفحاته، مخفية قلقي المباغت.‏

ومرةً أخرى يحلّ خريف، فلا أجد صوتي.‏

أفتش عنه بين القصائد لعلي أوقف الزمن فيعود، ولا يكون ذاك اللقاء، هو الأخير في تشرين أخير.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية