تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


رحيل.. في وداع الشاعر أحمد عباس مهنا «1933م - 2018م»

ثقافة
الأربعاء 31-10-2018
أمير سماوي

في الرحلة القصيرة بين البيت الغني بالذكريات والآمال في قرية الزيادة - جبلة، وبين القبر: البيت الأبدي لجثمان الشاعر أحمد عباس مهنا؛ أخذت دموع الوداع تنفض الغشاوة عن حبل الصور الطويل من الأحداث،

ووقائع الأيام التي عشتها على مقربة من الزمن المشترك أنا وابنه القاص المبدع ناظم مهنا حيث كان يزورنا إلى قصرنا الطيني والذي سماه مئات الأدباء الذين أمّوه مرارا وتكرارا «القصر السوريالي», وثمة انفتاح من قبله على كل ما في الحياة من معرفة وثقافة وعلوم, وكذلك ثمة مواكبة للمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية التي جرت في تاريخ مجتمعنا.‏

والشاعر صاحب مجموعات شعرية صدرت عام 1961 بعنوان (ثورة النغم) وعام 1981 بعنوان «النهوض» وعام 1990 بعنوان «موسيقا ليلية» ومسرحية صدرت عام 2004 وصاحب عددا كبيرا من الأعمال التي تنتظر دورها للصدور في كتاب ضخم؛ فقد منعته الظروف من طباعتها, ومنعه تعلقه بوجدان الحياة، وإخلاصه لصوفية صفائه الروحي من الذهاب بعيدا إلى عالم الأضواء لطرح نفسه كشاعر له كامل الحق في الظهور وإعلان قصائده، فمرّ الزمن، واغتاله الموت. دائما كنت أعهده برأسه المرفوع والشامخ كقمة جبل عال، وبنظرته الهادئة والرصينة التي تدعم ابتسامة تغمر وجهه الذي كانت ملامحه توحي بالأفكار التي لم يكن يخفيها، فيصارح الجميع بها، وهي في حقيقتها براءات اختراع من شخص كان يعيش في حالة أشبه بالعزلة راضيا ومطمئنا, ولكنه كان يطلق فهمه التهكمي والساخر لما هو به من حرمان وجحود للقيمة الإبداعية التي كان يحوزها.‏

وتفيض الحكمة في قصائده الوجدانية، وكأنه يرثي ويهجو الحياة الغنية بالتملق والصلف البشري. ففي شعره عكس صورة ملاحم الوطن في المقاومة والبطولة. وفي مجموعاته المطبوعة يجد من يتمعن النظر في شعريتها أن الشاعر أسس لتصورات جمالية قيّمة, وفيها تظهر فلسفته للعقل الإنساني ورهانه على طاقاته الخلاقة، وينظر إلى نفسه كراء يقوم بتوجيه أخلاقي تحققه الفضيلة الشعرية على الرغم من تغني الشاعر بوداعة وبراءة وسحر وطهر الخصال النبيلة: الحقيقة الحقة التي يجب أن تحكم سلوك البشرية ؛ فبرأيه هذا العالم المثالي الذي يتصوره، ويعيشه واقعا هو الأكثر صدقا وقربا من حقيقة الحياة الطبيعية.‏

والشاعر أحمد عباس مهنا كان متابعا للآخرين؛ ولن أنسى تلك الساعات الطويلة التي كانت سهرته الأخيرة معنا حينها احتفى بعرس حضورنا على مسرح فاعليته، وهو يتوهج بعرض ثقافته المخبأة، وأفكاره التي فاضت أمامنا وكأنها كنز دفين أخرجه للتوّ من منجمه الغني بخامات جاهزة لتتفاعل، مما أخذنا لنعلم حجم خسارة الوطن برحيل هكذا مبدع ربما كان وجْدُه من أبعده عن واجهة العلن، نعم أذكره، وهو يلقي علينا سيلا جارفا من خبرته، ومفاهيمه لعالم نفسه الواسعة، والطاقة الإبداعية الكامنة فيه، كان يحدثنا وكأنه يود أن يورثنا أشياء مكنوزة في أعماقه، وكأننا كنا أمام شاعر كبير وشاهق، فيتعامل معنا بانسجام ومودة الغيور.‏

وداعا للشاعر الطيب الذي رحل، ومعه أسراره العظيمة حول رؤيته للحياة، وتحولاتها، فهو المشهود له بقوة فكره في الارتكاز على العمق والثقة بنفسه حيث لم يكن للموت في حياته وجود أو حضور، فلم يبال به على الرغم من علمه بأنه يطرق بابه، ولكنه حين أقعده عن التعبير الشعري والمعرفي، ومنعه من القراءة ومتابعة تفاصيل الأحداث، أحسّ به مؤلما وثقيلا وفظيعا، ويقضي على كل بادرة أمل في العودة إلى الحياة الطيبة.‏

رحل الشاعر أحمد عباس مهنا محاطا بإيمان أحيا به الحلم بالجنة الأبدية بعيدا عن اليأس والضعف والنكران، ولعله هناك يلقي قصائده بصوته العالي، والخالدون مثله ينصتون بإعجاب وغبطة واحترام بعدما نزع الله ما في صدورهم من غل، وما على أعناقهم من أغلال.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية