تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


كل خميــــس.. متعـــة الجنـــون

ثقافة
الخميس 27 -10-2011
حكيم مرزوقي

  الجنون يعطي للمدن زهوها وأناقتها ويجعلها أقل تجهما وعبوسا فمدينة بلا مجانين هي مدينة بلا اسئلة، بلا تنوع، بلامتنفس وبلا ذاكرة.. هي ببساطة  ليست مدينة  بل قرية لنمل بشري لا يحركه عقل ولاحتى  غريزة.

لانخفي عادة إعجابنا الخفي بهذه الفئة التي تقول مانشتهي قوله وتفعل مانشتهي فعله ولاتعير اهنماما او اعتبارا لقيم غالبا ماتقيدنا كالخجل والخوف والندم والمراعاة الزائفة للزمان والمكان.‏

غالبا مايثير المجانين ضحك الآخرين ويكونون مادة للتفكه ورواية النكات على اعتبار ان الضحك هو ردة فعل بشري ازاء منطق غريب وغير مستأْنس فالحيوانات –بما فيها الابقار والتماسيح- لاتضحك ولاتبكي ولاتسأل عن عقولها.‏

لقد صنف الناس عبر التاريخ  هذه الفئة في خانة السلوكيات اللامسؤولة وسمح لهم دون غيرهم  بشيء من التطاول وسلاطة اللسان حتى حسدهم بعض الحكماء والشعراء فتخفوا في زي البهاليل والمهرجين والمبروكين من أْصحاب الكرامات الذين غالبا ماينطقون بالحكمة او الكلام الملغز او الشتيمة فلا يعاقبون عليها.‏

من المجانين وأْنصافهم   من  حظي بمجالسة الملوك والسلاطين (ربما لأْنهم لايطلبون شيئا) وتذكرهم التاريخ اكثر من مستضيفيهم وارتبطت أْسماؤهم بحوادث وعبر فْأمسوا واقفين على التخوم بين  الحكمة والجنون كاليوناني الذي يحمل مصباحه باحثاً عن الحقيقة في وضح النهار ومهرجي شكسبير وخدم موليير وشخصيات تشيخوف  مروراً ببهلول الرشيد ووصولاً الى العصور التي استحدثت فيها (العصفوريات) والمشافي المختصة والتي  اصبح فيها مفهوم الجنون ملتبساً، هلامياً ومشوشاً.‏

تخيلوا سجنا دون جرم، دون محاكمة، دون قاض، دون مدة عقوبة واضحة دون عفو خاص أو عام ودون زوار..!..إنه مشفى الأْمراض العقلية، يا لفظاعة العقل الانساني حين يستبد بعقل آخر يختلف عنه ويجبره على التداوي كي يشفى من تفكيره المختلف ويعود لحظيرة «الصواب» الذي تقرره المجموعة..!‏

ولكن.. قد يقول القائل: (عفوا سارتر، اذا تبنى كل واحد منا مقولتك   بتذمر واستعلاء: - الجحيم هو الآخرون - فمن هم الآخرون؟)‏

أليسوانحن؟ أليسوا  أولئك الذين سنوا منظومة الاعراف والاخلاق والقوانين التي تنظم وتضمن حياة واستمرار الفرد والجماعة؟ أليس من المجانين من يشكل خطرا على أمن وحياة الناس؟‏

ما هي حدود الاختلاف والتوافق؟‏

ما هو مفهوم الجنون، ووفق أي معاييرنشخصه؟ ألا يشبه الجريمة حين تصنعها المجموعة وينفذها الفرد؟‏

أسئلة قد تؤدي بنا حقا الى حافة  الجنون ولكن الجواب واضح، إنها القوة بمختلف تجلياتها، هي الوحيدة التي تملك الحجج والبراهين على أحقية الذئب في أكل الحمل وزج الطبيب المعالج في عنبر المرضى المجانين كما في رائعة تشيخوف (عنبر رقم6).‏

اذا كان الجنون أقصى درجات الرفض فماذا نسمي أقصى درجات الانصهار؟‏

لعل حياتنا هي بحث دؤوب عن التوازن الذي نلتقيه حينما نلتقي بنقيضنا أو ما نشتهي أْن نكونه وهذا ما يفسر بهجتنا عندما نتجول في مدينة يزينها المجانين والمارقون والمشردون مثل باريس ونقتني من أكشاكها  صورا تذكارية وبطاقات بريدية تمثل هذه الفئة التي تحصل على بعض العناية من بلدية المدينة بفضل مبلغ اقتطعته من تلك الصور نفسها.‏

صورة مجنون باريسي  يستظل بتمثال نابليون تذكرني بذاك المجنون الحكيم الذي جلس في زاوية متدفئاً بشمس الصباح في مقدونيا حين وقف الاسكندر الأكبر أْمامه مانعا عنه أْشعة الشمس فدار بينهما الحوار التالي:‏

-المجنون: اغرب عن وجهي ايها الرجل ودعني استمتع بدفء الشمس.‏

-الاسكندر: ويحك أيها المجنون..أنا لست مجرد رجل...أنا الاسكندر الأعظم.‏

-المجنون: وماذا فعلت حتى تلقب بالأعظم؟‏

-الاسكندر: غزوت نصف بلاد العالم.‏

-الجنون: وماذا ايضاً...؟‏

الاسكندر: وسأغزو النصف الآخر وأصبح سيد هذا العالم.‏

-المجنون: وماذا بعد؟‏

-الاسكندر: لا شيء.. سوف أعود الى موطني هنا وأستمتع بشمس الصباح الدافئة.‏

-المجنون: اذن.. اغرب عن وجهي ايها الرجل ودعني أستمتع بشمس الصباح الدافئة دون أن أضطرلغزو العالم.‏

hakemmarzoky@yahoo.fr

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية