تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ساركوزي.. قمة أوروبية وحلول “ترقيعية” جديدة

شؤون سياسية
الخميس 27 -10-2011
د. محمد البطل

لم تستطع قمة تموز الأخيرة لقادة دول الاتحاد الأوروبي، وضع حلول ناجعة لأزمة العديد من بلدانها المتعثرة اقتصادياً: (اليونان، إيرلندا، البرتغال، إسبانيا، ومؤخراً إيطالياً). فضلاً عن العديد من دول شرق ووسط أوروبا،

التي تعاني أيضاً من صعوبات، ليست أقل حجماً وتأثيراً، حتى تداعى قادة الاتحاد إلى قمة جديدة وصفها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بأنها ستقرر مصير أوروبا.‏

ورغم التوقعات بأن يتم رفع نسبة الإعفاء عن التسديد من 21 بالمئة إلى 50 بالمئة، فإن ذلك يتطلب حلاً تفاوضياً مع المصارف الدائنة والجهات المانحة الرسمية الاوروبية والدولية والمصارف الطوعية الدائنة أيضاً، ولن تشكل بمجموعها حلاً جذرياً لأزمة هذه الدول الآخذة بالاتساع من جهة، أو حلولاً ناجعة لمنطقة اليورو (دول العملة الأوروبية الموحدة)، التي باتت تعاني تباعاً من أزماتها أيضاً من جهة ثانية.‏

ورغم انضمام بريطانيا مؤخراً (العضو غير الفاعل، أو الممتنع عن المشاركة الفاعلة في العديد من المؤسسات الاتحادية الأوروبية) إلى كل من فرنسا وألمانيا، بوصفها القاطرة الرئيسية لأوروبا، ومنطقة اليورو تحديداً، فإن اتساع هذه الأزمة، وشمولها التدريجي لدول أخرى جديدة، بات ينذر منطقة اليورو بأسرها، أو غالبيتها الساحقة على الأقل بأزمة جديدة (تذكرنا بالأزمة المالية العالمية عامي 2008-2009). وإن كانت تشمل حتى تاريخه أساساً أوروبا القطب الاقتصادي العالمي، وانضمام حركة وول ستريت الأميركية إليها، بعد أن كانت قد بادرت بقيامها، إلا أنها تمثل جرس إنذار لهذا القطب أولاً، والمتزامن مع اتساع حركات الاحتجاجات الشعبية التي شملت، حتى تاريخه أكثر من 80 دولة ونحو 951 مدينة وعاصمة. وأنها تطرح مرة أخرى حجم التباعد بين الحلول الفوقية الإرادوية – الإدارية الحكومية والمصرفية، وبضمنها موقف القطاع الخاص، وبين مواقف الطبقات والفئات الأكثر اتساعاً وإنتاجاً في الوقت نفسه. هذه القرارات التي لم توفر لها حلولاً، ولا نعتقد بنهجها هذا، أنها قادرة على ذلك أيضاً. فجوهر المسألة يتمثل، وإن تمت محاولة تجنبها سابقاً بحلول “ترقيعية” مؤقتة، فإن المسألة تتمثل في طبيعة النظام المالي الوطني والاتحادي الأوروبي، وفي حدود ليست أقل، المالي – الاقتصادي العالمي، فقد ظلت المسألة نفسها، وعنوانها جوهر النظام الاقتصادي القائم وتجلياته الاجتماعية وتالياً السياسة.‏

هذه المسألة التي يتلخص عنوانها في تحكم فئات قليلة ومصارف ومضاربين في جوهر العملية الاقتصادية، وفي بنيتها أساساً القائمة على استغلال القلة القليلة لجهود وعمل الغالبية الساحقة من سكان هذه الدول، وبضمنها دول الاقتصادات القوية، حتى تاريخه. وهذا ما يؤكد عقم هذا النظام الاقتصادي – المالي عن إيجاد حلول للمعضلة الأهم والمتلخصة في التناقض بين الطابع العام للعمل والإنتاج من جهة، وفي تحكم البعض، على قلته، بالثروات الوطنية، وفي حدود ليست أقل، الدولية أيضاً من جهة ثانية. وأن ما أشار إليه الكثير من المفكرين والتقاصديين اليساريين مبكراً، عن العودة الملفتة للنظر إلى إعادة قراءة ودراسة الاقتصاد العام (الدولة، القطاع العام والتعاوني والمشترك) هو مؤشر إضافي إلى فشل نهج اقتصادي استمر عشرات العقود، في توفير العدالة الاجتماعية بين فئات وطبقات البلد الواحد. وتزداد هذه المعضلة إشكالية في ظل سياسة العولمة وتحكم دول قليلة بمصادر وطاقات وإمكانيات كوكب بأكمله. ولم تستطع مجموعة العشرين التي تمثل نحو 85 بالمئة من الاقتصاد العالمي إيجاد حلول لها، رغم محاولتها إدارة أزمة عامي 2008-2009، وفشلها في ذلك حتى تاريخه على الأقل.‏

ساركوزي الذي يدرك، بسبب من طبيعة وضعه الاقتصادي الداخلي وتبعاته الاجتماعية، وتالياً السياسية، التي ساهمت إلى جانب عوامل أخرى، ليست أقل أهمية، في تحديد مصير مستقبله السياسي – الحزبي، والذي أشارت استطلاعات الرأي الأخيرة عن هزيمة له في مواجهة مرشح الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند (خرج الحزب الاشتراكي لدورات عديدة من السلطتين التشريعية البرلمان “غالبية أعضائه” ومن السلطة التنفيذية “الحكومة”) والمقررة في ربيع العام القادم، أي بعد شهور قليلة فقط. يحاول جاهداً الاستنجاد بالاقتصاد الألماني وزعيمة الحزب الديمقراطي المسيحي المستشارة أنجيلا ميركل من جهة (التي تعاني بدورها من خسارات متتالية في الانتخابات المحلية والمناطقية)، وضم بريطانيا (العضو “المتمرد” في الاتحاد الأوروبي) إلى قاطرة إنقاذ أوروبا ومنطقة اليورو.‏

إلا أن هذه “الحلول” المؤقتة، على أهميتها راهناً، لم تستطع سابقاً تجنيب أوروبا من أزمات اقتصادية، مقارنة بالأزمة الراهنة التي بات قادتها، وبخاصة الثنائي ساركوزي – ميركل، وانضم إليها ديفيد كاميرون – رئيس الوزراء البريطاني عن حزب المحافظين في الجهود المبذولة لإنقاذ منطقة اليورو وأوروبا عموماً، وفي المقدمة المتعثرة اقتصادياً.‏

غير أن الجديد الذي يتلخص في إقرار ساركوزي بأن مصير أوروبا سيتقرر خلال أيام، وأن هذا الإقرار على أهميته وخصوصيته، يؤشر مرة أخرى إلى حلول فوقية إدارية – حكومية، وربما اتحادية، هذه المرة بسبب من شمولية الأزمة والاتساع التدريجي لدولها المتعثرة أولاً، وتأثر الاقتصادات الأقوى أوروبياً، حتى تاريخه، بالاستحقاقات المطلوبة منها لعملية الإنقاذ المؤقتة ثانياً.‏

وخلافاً لدول وروابط أخرى، بسبب من الديمقراطية الليبرالية الأوروبية، فإن صناديق الاقتراع ستفعل فعلها، مرة أخرى، في كيفية معاقبة الحكومات (التي تقود غالبيتها أحزاب يمين الوسط). وهذا ما أشارت إليه استطلاعات الرأي الأخيرة في إيطالياً، وفي غالبية الانتخابات المحلية الألمانية، وفي التراجع الكبير لشعبية ساركوزي وحزبه، وغيرهم، أمام تقدم قوى يسار الوسط في هذه الدول وبضمنها بريطانياً أيضاً.‏

لا شك في أن هذه العقوبات الانتخابية (المناطقية، البرلمانية، الرئاسية)، ستشكل نقطة تحول في السياسات الاقتصادية – الاجتماعية، وفي حدود ليست قليلة، السياسية أيضاً لهذه الدول. وستساعد في إيجاد حلول “ترقيعية” قد باتت مطلوبة جماهيرياً أكثر من السابق. إلا أن الهام يتمثل في اتساع حركة الاحتجاج العالمية، التي تطالب بحلول أكثر جذرية، تحسن طبيعة هذه الأنظمة وتوجهاتها الوطنية الاجتماعية – الاقتصادية وفي حدود ما الخارجية أيضاً. وهذا ما أشارت إليه شعارات حركات الاحتجاج العالمي وتوجد مواقفها أيضاً من الأزمات القائمة وأسبابها، ورفض قواها المحركة “للحلول الترقيعية” ثانية.‏

باحث في الشؤون الدولية‏

Batal-m@scs-net.org

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية