تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بعد 1800 دقيقة من الأمل و800 ألف ثانية من الإحسان .. رحــل الروائـــي الكوبــي اليســيو البرتـو

ثقافـــــــة
السبت 29-10-2011
علاء شنانة*

إثر مضاعفات في القلب ناتجة عن زرع كلية جديدة توفي في نيو مكسيكو في 31 تموز 2011 عن 59 عاماً اليسيو البرتو أحد أهم الروائيين الكوبيين. وهو من مواليد كوبا عام 1951، كان أصدقاؤه ينادونه بليتشي، وهو ابن ايليسيو دييغو احد أهم شعراء كوبا, وشقيقته التوءم خوسيفينا دي دييغو وهي كاتبة معروفة أيضا.

درس اليسيو البرتو الصحافة في جامعة هافانا وبدأ رحلته بكتابة الشعر ليكتشف أن الرواية ستساعده أكثر ليدخل ويحيط بعوالم ما كان بإمكان أبيه أن يدخلها. و لم يكن روائيا فقط وإنما صحافيا وناشرا وكاتب سيناريو حيث شارك في عدة سيناريوهات للراديو والتلفزيون والسينما أشهرها فيلم جوانتاناميرا. وأعطى دروسا في السينما في كوبا والولايات المتحدة وتشيلي والمكسيك.‏

يقول عن الطريقة التي دخل من خلالها عالم الرواية: «لقد كنت في الخدمة العسكرية, ووجدت نفسي أقود فصيلا, وصادفت أن التقيت برئيس تحرير المجلة العسكرية للقوات الحربية لكوبا. قلت له كذبة: قلت له بأنني كنت قد كتبت رواية, فعرض علي أن انشرها في المجلة بفصول, كل أسبوع جزء. وطلب مني أن أرسل له الفصل الأول, كان يوم جمعة. ذلك اليوم مساء جلست لأكتب, لأنه في الحقيقة لم يكن هناك أي رواية. وهكذا بدأت.‏

ورواياته هي التالية: «الموقد الأحمر» عام 1985، و «الخلود أخيرا يبدأ الاثنين» 1992، و«حلزون الشاطئ» 1998، و«أسطورة جوسيه» 2000، و«استير في مكان ما» 2005.‏

نال اليسيو البرتو جوائز أدبية عدة منها: جائزة النقاد على روايته «هناك الموقد الأحمر» عام 1983، وجائزة جابينو بالما عن كتابه «تقرير ضد نفسي» عام 1997. وجائزة الفاجوارا عن روايته «حلزون الشاطئ»عام 1998.‏

اصطدم هذا الكاتب بالنظام التعسفي في كوبا مما اعتبر كخائن لبلده ولهذا النظام. وهذا ما اضطره للجوء إلى المكسيك والإقامة فيها عام 1988 ليحوز على الجنسية المكسيكية بعدها بعامين.‏

وإذا ما دقق المرء النظر بحياة اليسيو البرتو, سنعرف أن هذا الرجل طويل القامة التي تقارب المترين. ذو شعر شبه شائب, ويدان ضخمتان, لكنه يبدو كطفل, لأنه يعيش فقط, بقرار, بعناد, لهواجسه وتفضيلاته, و لديه إيمان أكثر بأفكاره من الأشياء, ولأن ذاكرته كانت محاصرة في قفص من الكلمات.‏

كانت رواياته صفعات على وجه نظام شمولي, حيث لا يمكنك أن تقول له لا أو تعارضه, لكنه كان شجاعاً بما فيه الكفاية ليشرّح هذا النظام, يقول في إحدى المقابلات معه حول إمكانية انفتاح كوبا: «بينما لايُفرج عن المعتقلين السياسيين وبينما لاتُفتح الأبواب البيروقراطية للكوبيين, بينما لايدخل السجن أحد بسبب رأي مختلف, لن يكون هناك أفق للتغيير».‏

كان كتابه «تقرير ضد نفسي» كتاباً مروعاً ليطوف العالم الأدبي منتقدا الاستغلال, القمع للنظام اللاإنساني والاتهامات التي تسود كوبا منذ عام 1959. حيث يظهر بشجاعة وتواضع غياب القيم الإنسانية بين الآليات السلوكية لنظام فيدل كاسترو القوي, حيث اعترف الأديب بشجاعة فائقة بأنه خدم هذا النظام ذات يوم.‏

وقال عن كوبا «إنها بلد مبني على وشاية البعض بالبعض الآخر, وعدم الثقة بين الجميع, ومراقبة الجار لجاره, وسجن المنشقين وإعدام المعارضين». ويؤكد أن «هافانا اليوم مدينة مكسورة, تلوكها جرذان اللامبالاة».‏

كان البرتو بحاجة ماسة لكلية واضطر أن ينتظر ثلاث سنوات في طابور المنتظرين لهذا العضو الحساس. ويقول: «استلمت مكالمة هاتفية الأحد, أمرت أن لا آكل, إنذار ثان وثالث نبهني بأنه قد أزفت الساعة, بعد ثلاث سنوات من الانتظار. كان علي أن أقدم نفسي في قسم الطوارئ في المستشفى العام في المكسيك بكل أوراقي. بالإضافة إلى أشباحي في يدي, لأنني أنا من العنيدين الذين ما زالوا يعتقدون بأن الشعر فقط هو من يجترح المعجزات. فقد وافقت عائلة كريمة على التبرع بكلية لشخص عزيز من أعضائها, وكنت احد المرشحين الثمانية لامتلك إحدى كليتيه.‏

كتب في مقاله الأخير في جريدة «ميلينيو», يوم 14 تموز 2011, عن الانفعال للأمل بأن بامكانه أخيرا استقبال كلية ستبعده عن الموت وعن كرم القلة التي تتبرع بأعضائها من الناس: «كان علي أن أقص عليكم قصة عشتها لمدة 30 ساعة من الإيمان, أي 1800 دقيقة من الأمل, و800 ألف ثانية من الإحسان. (....) اتصلت الثلاثاء بالدكتور روسسانو وأكد لي أن عمليتي زرع الكلية اللتين سبقتا العملية المقررة له كانتا ناجحتين: إنهم يبولون, قال لي, وأنا فكرت, عندما اطفأت آخر سيجارة, أن اشرب نخب ماء جامايكية لمن قبلوا بكل ألم العالم, التبرع بأعضاء عزيزة عليهم. وشرب نخب من سيتخذ غدا قراراً مشابهاً وأيضا لأعزائي الأطباء والممرضات».‏

كتب اليسيو البرتو في نهاية مقالته،التي لم يكن يريد أو يسعى لتكون آخر مقالاته: «ممنوع عدم التبرع...الخلود أخيرا يبدأ الاثنين, كل اثنين, أي اثنين». و سلم نفسه للأطباء أخيرا الاثنين الذي يليه, لكن تدهور قلبي أنهى حياته.‏

كان عاشقا حتى الحنين لحبيبته كوبا أكثر من كونه فناناً وها هو اثر موته, يعود إلى المكان حيث لم يبتعد قلبه أبدا. ورحل دون أن يقص علينا ما تبقى ليقصه, بعد أن عاد إليه الأمل في الحياة غادرنا إليسيو ألبرتو.‏

*كاتب سوري‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية