|
ملحق ثقافي هكذا كتبت «كارن كريستينس» في مقالة تسلط الضوء على «توماس سترينز إيليوت» الشاعر والدراماتورجي البريطاني بمناسبة مرور أربعين عاماً على وفاته.. تستعيد الأديبة والناقدة «كارن» ذكرياتها برفقة فاليري قائلة: في كانون الثاني من عام 8891، ساعدت «فاليري إيليوت» في الحصول على سيارة أجرة من أمام شقتها في حدائق محكمة كينسينغتون اللندنية.. ناولتها صندوقين ثقيلين. وضعناهما خلف السائق بحيث تستطيع الاستمرار بمراقبتهما. تفحصت مع السيدة إيليوت محتوياتهما..
كانت هناك مجموعة إضافية من النسخ في الشقة التي أقفلت بإحكام شديد. انطلقت السيارة بالسيدة «إيليوت» عبر شوارع لندن. كان هذا عملي لذلك اليوم وكان بإمكاني التوجه إلى جنوب لندن.لكن ما إن لوحت مودعة حتى رأيت ظل «توماس» أو«توم» يراقبنا من موقف قرب صندوق البريد أعلى الشارع. لقد انتظر لساعات طويلة ليسترد رسالة كان قد غير رأيه بشأنها. تساءلت فجأة هل يمكن تحقيق إرادة رجل وضع شرطاً رئيساً لمنفذي وصيته الأدبية يتلخص في الامتناع عن نشر سيرته ورسائله الموجهة لزوجته فوق صفحات الجرائد والمجلات؟! كانت «فاليري» قد وظفت عدداً من المحررين والمدققين اللغويين السابقين قبل أن تطلب مني شغل هذا المنصب والاهتمام برسائل زوجها الشاعر المتوج «توم ماس سترينز إيليوت».. لكنني كنت أنا الوحيدة التي شاهدت رسائل ت.س إيليوت وساهمت في نشرها في الجرائد المتخصصة.. رغم حجم مراسلاته إلا أن تو لم ينشر سوى عدة رسائل أثناء حياته... وكان قد وضع مخططاً لطباعتها في كتاب.. إن الانتظار الطويل أحبط ورثته.. كذلك كان الأمر يثير حيرتي لأن الصناديق التي وضعتها في سيارة الأجرة كانت تحتوي مادة جاهزة لنشر كتابين أو مجلدين... ضمت رسائل الكتاب الأول قرابة 816 صفحة، نشرت في 62 أيلول 8891، بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لولادة إيليوت، شملت رسائله التي كتبها بين الأعوام 8981 وحتى 2291 أي نصف المخطوطات التي حملتها سيارة الأجرة ذلك اليوم. ومرت 71 سنة منذ ذلك التاريخ ولا تزال رسائل «إيليوت» ترقد في شقة كينسينغتون ويتوقع النقاد ألا ينشر المزيد منها خلال حياة «فاليري إيليوت» لأن هناك عشرات الرسائل التي يجب إيجادها قبل أن ينتهي العمل... لم أعد في حيرة من أمري رغم معاناتي من قلة الصبر لأن رسائل الكتاب الثاني كانت الأكثر تأثيراً من بين المئات التي عملت على تدقيق صحتها وتوثيقها.. إنها بيان لانهيار زواج إيليوت الأول، وما رافقه من يأس شخصين غير قادرين على تحاشي تحطيم بعضهما الآخر. ليس لدينا فقط رسائل إيليوت بل العشرات من رسائل كتبتها فيفيان هاي وود إيليوت، زوجة إيليوت الأولى، فيف الهيستيرية في مسرحية «توم وفيف» ل ميشيل هاستينغ. كتاب ثانٍ من الرسائل سيكشف حقيقة ما حدث بينهما وأنا متأكدة أنه سيخلق تعاطفاً مع «إيليوت». كان إيليوت يغار على خصوصيته بشكل كبير لكن حياته الشخصية كانت معقدة ومضطربة مما أثار اهتمام الناس بشكل طبيعي. لوبقي متزوجاً نصف قرن من زوجة مخلصة مثل «فاليري»لما لفت هذا الأمر الأنظار.. لكن بعد 04 سنة من وفاته، هاهي أرملته تدافع عن سمعته كما كانت خلال زواجهما الذي استمر ثماني سنوات حافظت عليه من دخان وضباب لندن ومن مراسلين حجزوا مقاعد خلف العروسين خلال رحلة شهر العسل إلى الباهاما. تستمر اليوم «فاليري» في حماية رسائله وتحول دون وصول أوراقه إلى الجامعات وترفض اقتباس أعماله، الطلبة خائفون من التعامل مع إرث «إيليوت» الأدبي.. وزوجي تقول «كريستنسن» عالم باللسانيات وكثيراً ما يسألني: «ألا نتحدث عن شاعر ميت؟» إنه غير مقتنع بالمخاوف والرهبة المتولدة من مواقف ورثة إيليوت.تملك «فاليري إيليوت» كل الحق القانوني بإحراق الرسائل لكن عليها أن تتريث قبل أن تختار كما فعل إيليوت حين طلب من عائلته وأصدقائه إحراق مجموعة كبيرة من رسائله. وهناك آلاف الرسائل التي بقيت وتم إحصاؤها ونسخها وستكون كشفاً لخصوصية هذا الشاعر وعذراً للحيلولة دون نشرها.... أما رائعته «توم وفيف» وهي ما أشارت إليه «فاليري إيليوت» بالمسرحية المخيفة، فتظهر «توماس ستيرنز إيليوت» كمتملق جشع يريد أن ينتمي لعائلة«فيفيان» الانكليزية المحترمة والثرية. لمدة خمس سنوات ونيف وإن «فيفيان» كانت بالكاد تحتفظ بوعيها وإدراكها الكامل... ابتعاد «إيليوت» عنها خلال تلك السنوات وقد تحدث إليه بعيد انفصالهما. ورفضه مجدداً رؤيتها أو الاتصال بها ترجمة لحفظ الذات كما فسره النقاد.. لم أكن أعلم شيئاً عن هذا الأمر عندما ذهبت للعمل عند «فاليري إيليوت» الزوجة الثانية. إنني كنت على وشك الوصول إلى مادة قد يرتكب دارسو إيليوت القتل من أجل رؤيتها والوصول إليها... لفت نظري في إحدى الأيام إعلان صغير في جريدة «التايمز» «مطلوب سكرتير لمعالجة إرث أدبي في كينسينغتون تتمتع بخبرة في تدقيق الكلمات وتنقيحها». فوجئت عندما تلقيت مخابرة هاتفية، بعد يوم أو يومين فقط من إرسالي الأوراق المطلوبة بالبريد تحثني على الحضور لمقابلة السيدة إيليوت. قامت «روزميري»وهي مديرة في «فايبر وفايبر»: بإلقاء التحية علي بحرارة في حين ظلت السيدة إيليوت بعيدة ووقورة. لكن الأجواء أصبحت ألطف عندما تحدثنا عن اكتشاف لوحة رسمها «إيليوت» في بداية حياته..في سنه السادس والعشرين؟ قالت فأجبت إنه يوم عيد ميلادي أيضاً.. ابتهجت السيدة إيليوت ثم ذكرت لها أن طفلي اسمه «توم» وأنني جئت من غرب أميركا. وفي نهاية المقابلة، منحتني «روز ميري» العمل إثر إيماء السيدة «إيليوت» بالموافقة والرضى.. بدأت العمل بعد يومين، وكنت أضع «توم» عند مربية الأطفال قبل التاسعة ثم أركب الحافلة متجهة إلى دارها وتنقطع أنفاسي وأنا أصعد درج شارع كينسينغتون العام وأدور حول المربع المؤدي إلى الحدائق. من الصعب المقارنة بين القاذورات المنتشرة في ساوث وارك، مكان إقامتي وشوارع كينسينغتون النظيفة حيث نوافذ كل بيت مشرقة وأرضه لامعة وما إن تطأ أقدامي درجها أشاهد السيدة «إيليوت» وهي تحوم حول الباب قلقة ريثما تستقبلني فتقول:«صباح الخير، عزيزتي. ضعي أغراضك والتقطي أنفاسي. إنني أعد القهوة من أجلك. بتخطي تلك العتبة أدخل عالم «إيليوت». تتوجه إلى المطبخ مسرعة ريثما أضع أغراضي لتحضير الحليب. نجلس على الأرائك في غرفة الجلوس مع إبريق القهوة الساخنة والحليب وصحن ملىء بالبسكويت.كنت أتملق المال والوقت المهدورين من أجل تجهيز المجلدالأول، لكنني كنت مندهشة بالطريقة التي تتعامل بها مع الطلاب الذين ينكبون على دراسة المسيرة الأدبية لزوجها إيليوت... وتسجيلها لملاحظات مؤدبة رسمية وجافة تقدم أقل عون ممكن ليعاودوا الكتابة فيبدوا امتنانهم لها من الأعماق. أمضينا وقتاً طويلاً في التعامل مع ما كانت تسميه الحصول على pmd (درجة الدكتوراه في الآداب) وطالما أزعجها عشاق شعر زوجها تماماً كالنقاد. وصلت جرأة أحد الطلاب الأميركيين إلى استئجار المنزل المجاور لمسكنها وكتب يقول لها أنه يرغب بإحضار طفله ويبلغ من العمر ثلاث سنوات لرؤية السيدة إيليوت لكنها رفضت مقابلته. كانت تحتفظ برسائل «إيليوت» الثمينة في ثلاث خزائن خاصة بالأضابير وفق ترتيب زمني. كنت أجلس على الأرض وحجري مليء برسائل من «جيمس جويس» و «إيزراباوند» و «ماريان مور وعشرات من آخرين،أقرؤهم من أجل الأفكار. احتفظت السيدة «إيليوت» بنسخ لأن العديد من رسائله حتى المرسلة إلى أصدقائه كانت تتعلق بعمله في النشر كمحرر في صحيفتي «الكريتيريون» و «فيبر». لم أكن أعرف إلى أية فترة زمنية سأنتقل لتفتيح رسائل تلك المرحلة.. ففي إحدى المرات قمنا بترتيب رسائل تعود للخمسينات وفي مرة أخرى طبعنا رسائل كتبت خلال الحرب العالمية الثانية.كان لدى «فاليري إيليوت» إحساس فطري بالرسائل وتبدو كأنها تعرف كل شيء عن حياة إيليوت المبكرة. ترجمة عن ملحق الغارديان |
|