تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ذكرى رحيل أحمد دراق السباعي... صياغة تشكيلية لأحلام البهجة الطفولية

ثقافة
الأحد 8-1-2012
أديب مخزوم

ساهم الفنان الراحل أحمد دراق السباعي بدور إيجابي في فتح المجال أمام بوادر ظهور لوحات تشكيلية مغايرة، لأنه ومنذ نهاية الخمسينات من القرن الماضي، اتجه نحو تقديم لوحات فنية حديثة، وبذلك شكل مع مجموعة من

الفنانين المبدعين الانطلاقة اللونية المتحررة حين بدأت الحركة اللونية الحديثة تتفاعل وتتصاعد وتتنوع في مساحات ألوانه وكانت لوحاته ( دولاب الهواء، طائرات الورق، العيد، أحلام الأطفال، حديقة الأطفال، طفل وزورق من ورق، الفارس الصغير، طفل وكرسي، وغيرها) بمثابة بدايات لأضواء وأحلام البهجة الطفولية الموصولة بالمرح والفرح الملون بالعفوية البريئة والمنطلقة نحو احتضان أحاسيس ومشاعر الطفولة.‏

احتمالات تعبيرية‏

من الناحية الفنية كان يحوّل الأشكال إلى خطوط هندسية حادة تدل على قساوة في التعامل مع تشكيل الشكل الإنساني أو البيت أو المركب أو الطير فتحولت لوحاته إلى شكل مختصر يفيض بالحساسية التشكيلية المتماسكة، ونادراً ما كان يجمع التناقضات حتى في استخدام الألوان المعتمة والمضيئة، لأنه غالباً ما كان يقدمها في نسيج واحد ومن خلال نمطية خاصة ومميزة، وعلى هذا كانت تتكرر في أعماله حركة واحدة من خلال احتمالات مختلفة تمنح الحيوية لتجربته وتبوح بما في أعماقه.‏

وتفيد الإشارة مرة أخرى، إلى أن معظم لوحات رواد الحداثة التشكيلية السورية والعربية، كانت متأثرة ومنذ البداية بجاذبية اللون المتحرر، الذي أطلقته صالونات العواصم الفنية الأوروبية، ولا يزال العطر الباريسي حتى هذه الساعة، يفوح من أنفاس لمسات اللون في لوحات معظم الفنانين السوريين والعرب المعاصرين، رغم أن مجمل هؤلاء يصرون على أن لوحاتهم مفتوحة على مناخية خاصة بعيدة عن الخيط اللوني الذي يميز اللوحة الأوروبية الحديثة.‏

أحمد دراق السباعي شأن معظم الفنانين العرب الرواد المحدثين، أراد منذ البداية أن ينتهج لنفسه أسلوباً فنياً خاصاً، يحمل إلى جانب نفحاته الجمالية الشرقية، موقفاً إيجابياً من الحداثة الأوروبية، وفي سهرات العمل كان يحلم بإيقاظ الحلم ويسعى للوصول بخطوطه وألوانه إلى تداعيات ما ترسخ في الوجدان من ذكريات طفولته، في محاولة لإغنائها من خلال إعادة الاعتبار لمفرداتها التشكيلية الصافية التي تحتضن عفوية وفطرية الفن النابع من التأمل والحنان والحنين.‏

لم يكن رتيباً كالآخرين، آمن بالانبعاث من خلال العمل الفني والجهد المتواصل، كان يريد أن يجمع في لوحاته حكايات طفولته المنسية، ربما لأنه استشف فيها السحر المتفائل إزاء القلق اليومي المجسد بوجع الحروب المتعاقبة دون توقف أو انقطاع.‏

كان عالم لوحات أحمد دراق السباعي يوحي بضرورة إسقاط الأقنعة، في محاولة للخلاص من أسئلة الحياة الصعبة المشحونة بالقهر والمرارة واليأس، فمثلاً كان يحاول تكثيف الصدمة المأساوية من خلال المقاربة والمباعدة والموازنة بين الحلم المفقود وتأملات الواقع المفجع، أي بين الصورة الفردوسية الطفولية وصورة الحروب المعلنة أو المؤجلة.‏

فن الموقف‏

ومع تزايد مشاعر الإحساس بالإحباط والمرارة (بعد الهزة التي تعرض لها الوطن في العام 1967) تحولت تجربته نحو توليف أشكال كوابيس الواقع بشكل مباشر، من أجل تعميق الشعور بمرارة الهزيمة، واستخدام الرموزالتفاؤلية كعناصر ملازمة لها في خطوات استشراف الآتي، وقد ظهر هذا التحول في لوحاته (أطفال القدس، عائلة، لاجئة، الأرض الطيبة، نازحات، الشهيد، رسم على جدار، حدث، أوقفوا العدوان، وغيرها) وبدأت لوحاته تقترب أكثر فأكثر من أحلام الطفولة، وهذا يعني أنه في لوحاته التي حاول من خلالها تجسيد أوجاع الحروب بلمسات لونية شاحبة وقاتمة وحزينة، كان يبحث عن إشراقات أمل من خلال استمراره في التركيز على إبراز أجواء أحلام الطفولة، وبذلك أصبحت لوحاته مفتوحة على احتمالات التوتر والاحتدام الدرامي قدر ما هي مفتوحة على الفرح والمرح والابتهاج الطفولي، ففي معظم لوحاته التي أعقبت النكسة قدم حكايات جديدة مأخوذة من تداعيات أحلام الطفولة المستعادة رغم كل المجازر والانهيارات المتواصلة.‏

ولقد كان يستفيد من نفس هادئ في معالجة المساحات اللونية عبر الاهتمام بالتأليف الهندسي، الذي يسمح ببروز حوارية التعبير العاطفي بين الخطوط والألوان في اللوحة، وأيضاً كان يعمل على خلق حركة حوار بصري داخل الصمت اللوني للوحة وإضاءة داخل المساحات الفاقدة لبريقها اللوني.‏

وهو غالباً ما كان يوازن في لوحته بين التبسيط الشكلي وبين تسطيح المساحة اللونية ومع ذلك كان شديد الحرص على تماسك الألوان والخطوط في اللوحة، رغم اتجاهه إلى نوع من العفوية في التعامل مع المساحة اللونية والحرية في تأليفها. هكذا كان يحرف الشكل محولاً المشهد إلى علاقات لونية وهندسية فيعتمد على المساحات اللونية والخطوط المستقيمة المتقاطعة بزوايا قائمة وحادة والحوار بين المساحات والأشكال مكثفاً طبقات اللون ومستعيناً بمادة الزيت لتأدية التعبير بتلقائية وعفوية وبالإضاءات اللونية والالتماعات التي تكون موزعة في أغلب الأحيان على أرضية لونية خافتة وباهتة.‏

هكذا كان يجدد ريشته ومعالجته اللونية والشكلية متجهاً نحو التعامل مع تعبيرية فنون الأطفال عبر الانحياز عموماً إلى التعبير الهادئ وإلى المشهدية البصرية الملطفة البعيدة عن العنف والصراخ اللوني.‏

وعلى الرغم من أنه كان يقدم صياغة عقلانية متماسكة، يمكن الانتباه إلى إيحاءات كثيرة بتلقائية التكوين والتلوين، ولهذا كان يتجه نحو فتح أشكاله وألوانه على ابتهالات روحية تفسح المجال لأحاسيسه المرهفة على خلق أجواء طفولية سحرية تستجيب لهدوئه وانفعالاته. لأحزانه وآماله، بحيث كان التأليف يتراخى في بعض لوحاته مقترباً من الأداء العاطفي (لوحات: صخور على البحر، التوءم، طائرات الورق وغيرها) ويتماسك في بعضها الآخر، من خلال إدخال الخطوط المستقيمة والزوايا والمساحات المسطحة، وأيضاً من خلال الانتقال من المعالجة اللونية المباشرة إلى التقشف في استخدام اللون الواحد الذي كان يساهم في إضفاء ذلك الجو التقاربي على مساحات لوحاته.‏

أحمد دراق السباعي من مواليد مدينة حمص 1935 استطاع الوصول من خلال تجاربه الخاصة الى اسلوب فني مستمد من رسوم الأطفال، وبرز اهتمامه بالمواضيع القومية بعد نكبة حزيران عام 1967 وشارك في العديد من التظاهرات والمعارض الفنية في الداخل والخارج، ودخلت بعض لوحاته ضمن مقتنيات متحف دمشق ووزارة الثقافة وجهات اخرى عامة وخاصة، رحل في20 كانون الاول 1987 واعتبر بحق أحد أهم رموز الفن التشكيلي المعاصر السوري والعربي.‏

(facebook.com(adibmakhzoum‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية