|
النص منتقى من قصص الأديب العربي السوري (أديب النح حين مروا من أمامها يحملون النعش على أكتافهم ، ويهتفون للشهيد وماإن رأتهم مقبلين حتى أخذت تهتف بصوت مرتفع : إلى جنان الخلد أيها الشهيد !.. لم يكن صوتها متهدجاً باكياً كما يحدث عادة للفتيات حين يخرجن في مواكب الشهداء ، بل كان عالياً ثابتاً لايختلج ولايظهر عليه أي تأثر في حين أن عيون الشبان من المشيعين المتظاهرين هي التي اغرورقت بالدموع لصيحتها! ولوحت لهم أمينة ، الفتاة الحلوة الصغيرة ، بنت التاسعة : - خذوني معكم لأهتف لكم ... خذوني أرجوكم .. أتوسل إليكم ! فحملها اثنان على كتفيهما ومضيا بها في الموكب المتظاهر وهتفت أمينة، هتفت طويلاً أمام الألوف المتظاهرة وشعرها متهدل على جبينها وقد اكفهر وجهها الطفولي الحلو ، وعلته أمارات الحماسة والغضب وعلا صوتها بكل ماظلت تتعلّمه وتردده خلال أيام طويلة ، وهي جالسة أمام باب المنزل تنتظر أن تشارك في إحدى المظاهرات ، أخذت تهتف لفلسطين ولحريّة فلسطين ، ولعروبة فلسطين وتصيح بالسقوط للصهاينة وللاحتلال وللدخلاء وللعدوان ، وبالمحبة والخلود للشهيد ، وبالمجد والشرف لأمه وأبيه وأخته وأخيه . لقد أثارت حماسة المشيعين ، هذه الفتاة الحلوة التي لم تتجاوز التاسعة ، وهي تهتف بأعلى صوتها خلف النعش ونسي المشيعون في غمرة من الحماسة الطاغية، أنهم خلف نعش الشهيد، فتقدموا خلف أمينة ، الفتاة الصغيرة المرفوعة على الأكتاف، متجاوزين النعش والموت ومنطلقين نحو شوارع غزّة الرئيسية بدل الانطلاق نحو المقبرة يحكون في غزّة كيف انقلبت جنازة الشهيد إلى جنازة لستة شهداء يحيطون به في ساحة الموت الخالية إلا من قرع أحذية الجنود الصهيونيين وهدير مصفحاتهم . أما أمينة فكانت إلى جانب النعش في الساحة الصامتة لاتتحرك من مكانها أبداً منذ أن سقطت من فوق الأكتاف وأقبل الشرط، ووقفوا بجانب رأسها وصاحوا بها: انهضي بابنت.. هيا بنا! فلم ترد فأمسك بها واحد منهم ،من يدها الصغيرة وجرّها إلى أعلى ، فلم تكد تقف حتى عادت وجلست فوق الأرض وانحنى آخر عليها وصفعها على وجهها وهو يصيح : قفي يابنت! وامشي أمامي بسرعة وكانت امرأة تجتاز الشارع في تلك اللحظة وتتجه نحو الساحة ، وصاحت بالشرط الذين أخذوا يتراكضون نحوها ويمسكون بها:
- دعوني.. إن هذه البنت الصغيرة .. هي أمينة ابنتي! - كيف تتركين ابنتك ياامرأة ، وهي بهذه السن ، تخرج في المظاهرات محمولة على الأكتاف، تهتف ضدنا؟ وكيف تربين هذه البنت هكذا على الشراسة وسوء التهذيب ؟ نطلب إليها الوقوف ، لتمضي معنا، ثلاث مرات فلا ترد ، ولاتتحرك من مكانها وحين ننهضها بالقوة تعود فتجلس من جديد! أجابت أم أمينة وهي تنظر إلى الضابط الصهيوني متحدية: لو كانت تستطيع ، لتركتها تخرج لمواجهتكم في كل المظاهرات فمنذ اليوم الأول لاحتلالكم غزّة وهي تحلم بالخروج من أبناء غزّة وبناتها في مظاهرة صاخبة، إنها تجلس كل يوم أمام باب بيتنا وتشاهد المظاهرات التي تمر أمامها وتتعذب لأنها لا تستطيع المشاركة حتى سنحت لها الفرصة هذا اليوم للخروج ، فحققت بذلك ماكانت تحلم به منذ زمن طويل. ولكن لو لم يحملها المتظاهرون على الأكتاف لما استطاعت الخروج .. ألا ترون .. ياعميان أنها مشلولة .. وأنها عاجزة عن أي حركة مالم تحمل على الأكتاف! ؟ |
|