|
دين ودنيا التي تحملها اليوم مئات الفضائيات في الأرض إلى كل سكان المعمورة في مشهد يملأ العين والقلب بالجلال والجمال, ويرسم بالفعل صورة سمو المثل الأعلى على رغائب الجسد, وتعالي الروح على المادة. إلا إذا كنت بلا قلب!! أما أصحاب القلوب فإنهم لا يستطيعون أن يقفوا أمام ذلك الجلال دون أن تفيض عيونهم وتنشد أرواحهم مع أهل المشهد الروحي الغامر: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك! إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك لبيك!! ينظر المسلم خلال صلاته إلى موضع سجوده إلا إذا كانت صلاته في الحرم الشريف فإنه ينظر صوب الكعبة الشريفة ويعتبر نظره إليها عبادة وطاعة. الكعبة التي هي أشهر الثوابت في الشريعة لم تكن في ضمير الرسول الكريم أكثر من رمز يذكر بالحقيقة الخالدة المطلقة التي هي الله, وفي موقف شجاع قال النبي الكريم للناس لو أن أحدكم هدم الكعبة حجراً حجراً!! كان أهون على الله من قتل مؤمن! لقد كان إعلاناً فريداً عن مكان الشريعة في خدمة الإنسان رافضاً أن يختصر رسالة الإنسان في الحياة بخدمة المناسك!! وفي موقف أكثر وضوحاً وقف عمر بن الخطاب أمام الحجر الأسود نفسه وقال: أما إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك!! ومع أن الكعبة قبلة العرب وقبلة إبراهيم وتاريخ آبائه وأجداده, فإن النبي الكريم تحول إلى قبلة أخرى في بيت المقدس لأهداف تتصل بالمقاصد العليا للأمة, تأكيداً مباشراً على الصلة الحقيقية بين الرسالتين الأعظم في الأرض الإسلام والمسيحية, وأن المشترك أكثر مما يعتقدون, ولم يبال إن يصلي إلى بيت المقدس أكثر من نصف عمر الرسالة, وحين استجدت ظروف جعلت مصلحة الأمة في الاستقلال بمناسكها ورموزها عن أهل الكتاب لم يتردد في التوجه مجدداً إلى الكعبة ونزل القرآن الكريم: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره!! بالطبع قامت القيامة ووجد خصوم الإسلام دليلاً جاهزاً لمهاجمة الرسول والرسالة وقال السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها? وقال آخرون إن محمداً لا يدري ما يصنع! يأمر بالأمر اليوم وينهى عنه غداً وقالوا كيف نتبع رجلا ما يدري ما يفعل بنا ولا به? وقالوا إنه يلعب بثوابت الدين وهل هناك أثبت من القبلة!! وقالوا لقد حن إلى أوثان قومه, وقالوا إنه يقوم بتمييع الدين والمصالحة مع الأصنام!! في اتهامات متتالية نزل القرآن بالرد على كثير منها في سبعين آية في سورة البقرة تؤكد كلها أن الشريعة رسالة تلبي مصالح الإنسان في المقام الأول وأن أكبر الثوابت في الشريعة يمكن أن تتغير إذا كانت مصلحة المجتمع العليا تتطلب ذلك, ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان, وأنه ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها, وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه, وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله, وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم. وفي درس آخر في ظلال الكعبة فقد أجمع العلماء أن الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام كانت بناء مستطيلاً يشتمل على الكعبة الحالية وحجر اسماعيل المجاور لها والذي ينسب للنبي الكريم اسماعيل عليه السلام, وقصة ذلك فيما يقال أن الكعبة تهدمت خلال فترة شباب النبي الكريم, وقامت قريش بإعادة بناء الكعبة ولكنها لم تستطع أن تبنيها كاملة فبنت البناء الحالي, وتركت حجر اسماعيل وأشارت إليه بعلامة على صورة هلال ليعلم الناس أنه من الكعبة. كان النبي الكريم يتطلع إلى إكمال الكعبة المشرفة كما كانت أيام إبراهيم وكان هذا أمراً متوقعاً, وكان الناس يتوقعون صدور توجيه بإعادة بناء الكعبة ليبدأ ذلك على الفور, ولكن النبي الكريم أعرض عن ذلك كله, ولم يشأ أن يحرك ساكناً في هذا الأمر وقال للسيدة عائشة رضي الله عنها لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت البيت وأقمته على أركان إبراهيم!! مع أنه كان مقتنعاً تماماً بوجوب بناء الكعبة على أركان إبراهيم ولكنه كان يوازن بين المنفعة والمفسدة في ذلك ويختار لأمته ما هو أكثر ملاءمة وصواباً. لم يشأ أن يدخل في جدل لاهوتي عقيم, وأدرك أن هدمه للكعبة لن يمر دون جدل, وسيقوم غاضبون كثيرون ينادون بالثورة لحماية تراث الآباء وثوابت الدين, وكان في إمكانه بكل تأكيد مواجهة ذلك, ولكنه ليس مضطراً لمعركة كهذه, وبالفعل فقد خرج من الدنيا ولم يحقق أمنيته في بناء البيت كما يريد!! وبقيت الكعبة كما بنتها قريش واكتفى النبي الكريم بوضع علامة شمال الكعبة تشير إلى حجر اسماعيل حيث كان يفترض أن يقوم البناء ولا تزال تلك الإشارة إلى يومنا هذا عند حجر إسماعيل تذكيراً بالجزء الذي لم يتم بناؤه من الكعبة. بعد نحو ستين عاماً ولي عبد الله بن الزبير على الحجاز, وكان ابن الزبير يمتلك سائر المؤهلات ليبلغ الخلافة وبايعه الناس في الحجاز واليمن والعراق ومصر وخراسان وأكثر الشام, وبعث عماله إلى هذه البلاد, وظهر نبوغه كزعيم شجاع, يمتلك المؤهلات الكافية فهو أول مولود في الإسلام, وأبوه حواري الرسول, وأمه أسماء بنت أبي بكر, وعمته عائشة, ولديه رصيد كبير من العلم والفصاحة والبيان, وحين استقر له الأمر في الحجاز وقع في غلطة العمر حين قرر أن يعيد الكعبة على ما كانت عليه أيام إبراهيم, وبالفعل هدم الكعبة وأعاد بناءها على أركان إبراهيم بالبناء المستطيل,!! كانت غلطة العمر! ومن خلالها تمكن الأمويون من تحريك الشارع ضد ابن الزبير كمبتدع بدل الشريعة وعبث بثوابتها, وانطلقت من الشام مظاهرات هائلة أشبه بغضب الشوارع الإسلامية يوم الرسوم الدنماركية!! وتمكن الأمويون من حشد طاقات الناس للدفاع عن ثوابت الشريعة وحرمة الكعبة!! وتم تحويل هذا الغضب إلى جيش حقيقي تحرك من الشام والعراق بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي وصار يزداد عدداً وعدة في الطريق لوقف ابتداعات عبد الله بن الزبير واختراعاته, ووصل الجيش ووقعت الواقعة, وحين دخل ابن الزبير ليحتمي بالكعبة من الجيش الغازي قال الحجاج إن الكعبة لا تحمي من لا يحفظ حرمتها ونصبت المجانيق قبالة الكعبة وهدمت الكعبة وقتل ابن الزبير!! لم تأخذهم آنذاك وخزة ضمير فقد أخرجوا جثة ابن الزبير من الكعبة وصلبوها دفاعاً عن الكعبة وحرمتها وطقوسها وتقاليدها!! غلطة الشاطر بألف, وكان بإمكان ابن الزبير أن يبدأ بألف مطلب حيوي حقيقي قبل أن يورط نفسه في مواجهة مع الإرث المقدس وحراسه الذين لم يتورعوا عن قصف الكعبة وقتل الإنسان في جوف الكعبة دفاعاً عن الدين!! مع أنها محض أحجار!! ولكن ظلالها رسمت لنا لوحة الوصال بالسماء, ولوحة التشريع في الأرض, تمتلئ الأولى بالجلال والوقار ونفحات الملأ الأعلى, وتمتلئ الأخرى بإرادة الحياة وحكمة الشريعة. |
|