تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


دمشق: والديك الصياح

معاً على الطريق
الجمعة 5/12/ 2008 م
قمر كيلاني

كنت ولا أزال كلما سافرت في أنحاء العالم أحمل معي هدايا من مصنوعات, ومصوغات, ومشغولات, وحتى من النحاس المحفور, والزجاج المزين بالرسوم والزهور إلى آخر ما هنالك مما هو دمشقي وتقليدي وعريق عراقة مدينتي,

على الرغم من أن أسعاره (كانت) زهيدة ولا تملأ عين المهدى إليه وخاصة في العواصم الأوروبية الغربية أو الشرقية, لكنني أصر دائماً على ذلك حتى عندما ذهبت إلى الصين بلد الروائع والتحف النفيسة حملت معي الزجاج الدمشقي رغم هشاشته, وعقود الخرز رغم ضآلة قيمتها.‏

لمَ أنا فخورة بكل هذه الأشياء?.. هل لأنها لاتزال ملتصقة لا بجلدي بل بدمي. أقمشة نادرة في العالم كقماش (الصاية) و(البروكار) أو لأني فتحت عيني على جماليتها في الأغباني و(السرما) وكل ما كان يحتويه سوق (القيشاني) مما يخطف العين والقلب وخاصة تلك الرسوم عن غوطة دمشق وأزهارها وأطيارها وحتى أنهارها وأشجارها.‏

وفي مرة في أوائل السبعينات من القرن الماضي وأنا أمام جولة متعددة الاتجاهات في أوروبا شرقا وغربا اكتشفت تلك الصور الغريبة جدا, والجميلة جدا لفنان شعبي ما أظنه إلا وقد أصبح عالميا وهو ( أبو صبحي التيناوي), فاشتريت عدة لوحات قماشية ذات رسوم من التاريخ الشعبي لا لدمشق بل لأمة العرب والإسلام ففرحت بها, واعتبرتها هدايا غالية وعزيزة رغم أنها بسيطة وزهيدة الثمن, وكنت كلما قدمتها إلى أحد من معارفي الاجانب او المغتربين يمرون عليها بنظرة سريعة, ثم يعودون إليها بدهشة بالغة مع تعليقات كنت أراها بين شخص وآخر متباعدة جدا, لكنها جميعا تصب في اتجاه واحد هو أن هذا الفن الشعبي جميل بل رائع.‏

ولما عدت من رحلتي ذهبت إلى باب الجابية وانتظرت ساعات طويلة حتى ألتقي بذلك الفنان الذي ينتزع من ضمير التاريخ الشعبي هذه الصور البسيطة والساذجة في فكرتها من عبلة وعنتر, والزير سالم, وشخصيات التغريبة لبني هلال الخ.. وكأنه بذلك يصبح تعويضا عن صمت الحكواتي في حارات دمشق القديمة عندما كان يروي تلك القصص, وكأنه بذلك أيضا يبتكر فنا جديدا تعويضا عن خيال الظل أو كراكوز وعواظ بعد أن غاب كل ذلك لتحتل الأمكنة السينما والصور الفوتوغرافية الخ.. ولما عدت خائبة من انتظاري الملهوف لذلك الفنان المشغوف بالماضي بنظرة أخاذة ورؤية نفاذة اكتفيت برزمة من الصور القماشية.. وقالوا لي إنه لا يأتي دائما إلى هنا لأنه أصبح كبيرا في السن ومتعبا, ولم ألبث أن سمعت نبأ رحيله في عام 1973 لكن الصور ظلت تشغل مساحاتها, وتساءلت من يرسمها إذن? فقالوا لي إنها ابنته أو أحد من أقربائه أو ذريته.. وفرحت باستمرارية هذا الفن الجميل والمعبر عنا, وأزعم أن بعض الشخصيات الشعبية التي انبثقت مع التلفزيون والمسرح الشعبي هي مستوحاة من رسوم أبي صبحي التيناوي, أو على الأقل من تسمياته لشخوصه.. وما أظن أن شخصية أبي صياح إلا صرخة من ذلك الديك الصياح الذي يفتح عيوننا على فنه الجميل.‏

وأذكر أنني أهديت لوحة لم أفهم مغزاها ولا معناها وهي لوحة الحصان وذيله, فقال لي أحد الفنانين الفرنسيين: هذه لوحة لا تعدلها إلا لوحة ديك بيكاسو, وبذلت كثيرا من الجهد في اكتشاف قصة ديك بيكاسو, ولم أجد تعريفا للفنان الدمشقي أبي صبحي التيناوي إلا أنه الديك الصياح الذي أطلق نداءه مع فجر استقلال سورية ومع إحياء فنونها وتراثها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية