|
ســـــاخرة وقد يكون هذا الكلام صلة بالعلاقة بين الدكتور الأديب عبد السلام العجيلي والصحفي الكبير سعيد الجزائري، فالعجيلي قاص وروائي معلم عرف عالم النفس البشرية الجواني، وضع يده على حوافزه وإحباطاته. الرقة في وجوه الراحلين وهكذا فإنه فهم الجزائري، على نحو جيد، وكما لم يفهمه أحد من أصدقائه أو أصحابه- وكان كاتب هذه السطور من بينهم- ولذلك فإنه لا يغضب من تعريف الجزائري مدينته«الرقة»- في الفصل الثاني عن الجزائري في كتابه/ وجوه الراحلين/- بأنها مجرد قرية كبيرة مجهولة الاسم معدومة الأهمية، وتقع على حاشية الصحراء. عمود.. نصبت عليه خيمة أكثر من هذا، يقول العجيلي: كلما ورد اسم الرقة أمام الأصحاب على لساني، يلتفت إلى من حوله ويقول معلقاً: - إنه يوهمنا أن الرقة بلد، أنا أخبركم: أينما نصبتم عموداً، ورفعتم عليه خيمة، فهي الرقة. الجزائري والعجيلي في /مودرنا/ ويستطرد الدكتور عبد السلام قائلاً: «أذكر يوماً من أواخر الأربعينات- في القرن الماضي- وكنت آنذاك عضواً في المجلس النيابي، قادني فيه سعيد إلى محل«مودرنا» الذي افتتح في شارع فؤاد الأول، واشتهر بما يبيعه من فاخر الملابس. دخلنا المحل، وانتقى هو قميصاً وربطة عنق وثلاثة أزواج أو أربعة من الجوارب، لفها البائع في ربطة وسلمها إياه، ثم طلبت من البائع أن يلف في ربطة أخرى زوجين من نوع تلك الجوارب، سألني سعيد: لمن هذه؟ قلت: لي، فقد أعجبني ما انتقيته، فألقى هو الرزمة التي كانت في يده، وقال للبائع: خذ إليك هذه الأشياء، فلا حاجة لي بها.. لم يبق علينا إلا أن نلبس مثل الفلاحين. العجيلي.. سائق تكسي ويذكر العجيلي أن الجزائري كان مولعاً بترديد المبالغات في حلقاتنا في مقهى البرازيل عن تراثي وكثرة ممتلكاتي، ومضيفاً إلى ذلك أنني رغم ثراثي الطائل لاأتورع عن تشغيل سيارتي الخاصة التي أجيء بها إلى دمشق كتكسي أنقل فيها الأصدقاء وأتقاضى أجرة ذلك منهم. فإذا استنكر الجلوس هذه التهمة منه لي، راح يقسم على صحتها ويستحلفني عما إذا كنت لم آخذ منه في الليلة الفائتة أجرة توصيله إلى داره؟ الجزائري.. إلى شارع فيصل ويعلق الكاتب الكبير قائلاً: كنت أرد ضاحكاً بأن ما يدعيه صحيح، فقد كانت عادته في كل مرة أوصله فيها،في أعقاب سهراتنا المتأخرة إلى داره القديمة في شارع فيصل، أن يمد يده إلي بنصف فرنك ويقول: - خذ هذه أجرة التوصيلة، خذ ولا تحملني منة. فإذا أبيت وأنا أضحك، أخذ نصف الفرنك، وراح يقسم بكل يمين أن لا ينزل من السيارة، إلا إذا أخذته، وبهذا تصبح تهمته لي في اليوم التالي أمام الرفاق صحيحة. البخل أقبح السجايا عند سعيد ويوضح الدكتور العجيلي أن سجية الحرص أو البخل عند سعيد كانت أقبح السجايا وأكثرها مدعاة للتندر والضحك، في حين كان الكرم قادراً عنده على أن يعفى على المعايب، ولاسيما الكرم الذي يناله رذاذه. من ذلك مثلاً تشنيعاته على شاعر كبير كان معروفاً بثرائه وحرصه معاً، وعلى ابنه الذي أصبح بعد أبيه شاعراً مشهوراً. الشاعر الكبير.. وابنه ونفايات قصائده وينقل عن سعيد قوله: هل تعرفون حكاية القصائد التي ينشرها فلان، يعني الابن، بتوقيعه؟ فإذا سألناه عن الحكاية قال: أنا أعلمكم، ينادي الشاعر الكبير نجله ويقول له: - يابني، نظمت كم بيت شعر فلم تعجبني، أحسن من أن ألقيها في الزبالة، خذها أنت، وضع عليها توقيعك. وكأنه يهب ابنه ثروة ويتابع عبد السلام العجيلي: بهذه التشنيعة يضرب سعيد عدة عصافير بحجر واحد، فهو يسخر من بخل الأب الذي يحرص حتى على الكلمات التي لاقيمة لها، فلا يتنازل عنها إلا لابنه، متفضلاً عليه بها كأنه يهبه بها ثروة، كما يسخر من شاعرية الابن التي تقوم على نفايات ما ينظمه أبوه. هذا مع العلم أن سعيداً كان كثير الإعجاب بموهبة ذلك الشاعر الكبير شديد التعصب والتقدير له. |
|