تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عندما يتفجر القهر والتهميش أعمالا دامية!

دراسات
السبت 14/1/2006م
حكمت فاكه

مضى حوالى الشهرين على الأحداث العنيفة في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس والتي استمرت حوالى ثلاثة أسابيع,حيث بدأت عنيفة وخفت حدتها بعد ذلك.

والدروس المسستفادة منها هي الأبقى في التاريخ بعد أن تندثر الأحداث من الذاكرة أو يطويها النسيان.‏

ما حصل في ضواحي العاصمة الباريسية كان أشبه بمظاهرات الشباب في أيار عام 1968 حيث بدأت في ضواحي باريس بشكل تلقائي وانتشرت خارجها, وإن لم تبلغ حجمها, حركتها نفس الدوافع.. التهميش وتسلط الكبار, وعدم المشاركة في تحديد مستقبلهم, والتلقين في التعليم, وبيروقراطية المؤسسات والشعور بالقهر.‏

وهي ليست فريدة بالعصر الحاضر فقد حصلت على مسار التاريخ ثورة العبيد في روما وثورة القرامطة, وثورة الزنج في بغداد والهبات الشعبية في تاريخنا المعاصر من أجل الخبز والحرية.‏

لكن السبب مزدوج, يعود إلى طبيعة المجتمعات الأوروبية التي يعيش فيها المهاجرون, فبالرغم من فلسفات التنوير وقيم الحرية والإخاء والمساواة وحقوق الإنسان والإدعاء بأن الحضارة الغربية هي الحضارة العالمية ونموذج التحديث, فما زالت تتعامل في الممارسة بالمعيار المزدوج, فما ينطبق داخل أوروبا لا ينطبق خارجها, وقيم الحرية والديمقراطية والعدالة في الداخل تتحول إلى نقيضها حين ممارستها في الخارج إلى ممارسات القهر والتسلط والاستغلال.‏

بل إنه معيارمزدوج داخل المجتمعات الأوروبية ذاتها, قيم تنطبق على الطبقات العليا والوسطى, وتنحسر عن الطبقات الدنيا من المهاجرين والملونين, فالعامل الحاسم في التعامل في اللاوعي الحضاري الأوروبي هو لون البشرة, ثم لكنة اللغة ثم الأصل أو المصدر, فاللون الأبيض هو الأعلى يليه الأصفر ثم يأتي بعده الاسم, واللكنة الأوروبية في النطق أعلى من اللكنة الآسيوية ومن الهجرة الافريقية الذين سماهم وزير الداخلية الفرنسي- الحثالة- وهو المرشح لمنصب رئاسة الجمهورية, تملقا لليمين الاوروبي الصاعد والأحزاب النازية الجديدة, والمحافظين الجدد والمسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة.‏

إن علاقة المركز بالأطراف لا تنطبق فقط على علاقة المركز الأوروبي بأطرافه في آسيا وافريقيا.‏

بل وتنطبق أيضا داخل المجتمع الأوروبي ذاته وداخل المدن بالتحديد, فهناك مراكز المدن في الأحياء الراقية وسط المدينة التي فيها البنوك والشركات ومؤسسات الدولة مثل الأحياء العشرة الأولى في مدينة باريس, وهناك أطرافها التي يسكنها الملونون والمهاجرون مثل الأحياء الثلاثة الأخيرة, فالأطراف كالمناطق العشوائية في مدننا العربية, أرخص سعرا وأقل نظافة تسكنها الأجيال الثانية والثالثة من المهاجرين الذين يحملون الجنسيات الأوروبية أو على الأقل الجنسيات المزدوجة, وفي بيوتها البالية تندلع الحرائق لغياب التأمين عليها, وفي أزقتها تنتشر الجريمة والمخدرات, وبين شبابها تعم البطالة وينشأ الشعور باللاانتماء, فهم ثقافيا مازالوا يعيشون ثقافة الوطن الأم في اللغة والعادات والتقاليد والقيم والهوية, أقلية تعيش وسط أغلبية تصدر عن سلوك الأقليات والإحساس بالاضطهاد, لا تعمل إلا بالأعمال التي لا يقترب منها الرجل الأبيض, تعبيد الشوارع, البناء, المجاري, تنظيف الطرقات, أقرب إلى العمال المتجولين, وعمال التراحيل كما هو الحال في الدول الغربية, وكما شق الزنوج في الولايات المتحدة الطرق بعد خطفهم من افريقيا للقيام بالأعمال اليدوية التي لا يقوم بها المهاجرون البيض النازحون من أوروبا, كذلك شق عمال شمال افريقيا الانفاق لتسيير القطارات.‏

لقد أقامت الحكومات الاشتراكية الإسكان الشعبي وهو ما يسمى - الاسكان المتوسط الأسعار- وأصبح هذا الإسكان قديما وباليا لا يتفق مع أنماط الحياة المعاصرة,وهي تجمعات إسكانية بلا هوية, مجرد معلبات متشابهة, قدمت خدماتها العامة في المياه والغاز والكهرباء, وأصبحت آيلة للسقوط لسوء العناية بها, هي أحياء خدمات مصدر للعمالة للأحياء الراقية وسط المدينة.‏

وبدلا من تحليل الأسباب الاجتماعية لثورة المهمشين في العواصم الأوروبية يتم اللجوء إلى الذرائع النمطية التي ما زالت قابعة في اللاوعي السياسي الأوروبي وهي: (الإرهاب والإسلام, والثقافة العربية المتخلفة, والأصولية الإسلامية, وجماعة أسامة بن لادن, وأبي مصعب الزرقاوي وأيمن الظواهري وامتداد تنظيم القاعدة) والعنف عند البيض لا يقل انتشارا عن العنف عند المهاجرين الملونين, وجماعات الجريمة المنظمة عند البيض أكثر تدميرا لمظاهر المدنية الأوروبية من الجماعات المهاجرة مثل تدمير المبنى الفيدرالي في أوكلاهوما. والغرب يعرف أن الإسلام كان تاريخيا أحد المصادر الرئيسة للحضارة الأوروبية في العصر الحديث عبر الترجمات من العربية إلى اللاتينية مباشرة في طليطلة وبادوا وباليرمو وبيزنطة.‏

لم يكن العنف موجها ضد الأشخاص, فقيمة الحياة هي المقصد الأول من مقاصد الشريعة ولكن ضد الممتلكات ورمزها السيارة التي يطمح المهاجر أن يمتلكها, العنف ضيق نفسي أولا واغتراب عن العالم الذي يعيش فيه المهاجر, ببدنه وليس بروحه, الضيق حديد الزنزانة والمعدن الذي تصنع منه العربة, فيتم مقابلة الحديد بالنار,حديد القهر الاجتماعي والمجتمع العنصري والطبقات العليا ونار الغضب والقهر والتهميش والاغتراب.‏

فالعربات التي كانت تقف أمام منازل الأغنياء هي الهدف الأول, المستحيل الذي يريد المهاجر أن يحصل عليه, ويحدث ذلك في كل الهبات الشعبية وفي أي بلد كان, فهذا الحارس المهاجر الذي يحرس الفنادق الكبرى, ويرى من خلال لوحات الزجاج الخارجي الموائد الفاخرة وزجاجات الخمور, وهو يحرسها من الخارج, ومرتبه يساوي ثمن زجاجة مياه معدنية,كان لا بد للغضب أن يتفجر في نفسه ويدمر الواجهات الزجاجية وهو حارس الأمن للآخرين, وهو في الوقت ذاته يفتقد الأمن لنفسه, والعنف في التاريخ أحد دوافعه وحركته ومساره في كثير من الأدبيات الغربية منذ هيغل حتى سوريل هو الحرمان.‏

إن ما حصل في العواصم الأوروبية من ثورة المهاجرين المهمشين مؤشر على ما قد يحدث بصورة أعظم في المستقبل,مع تزايد المد العنصري اليميني في الغرب وتزايد الإحساس بالضنك لدى المهاجرين مع النمو السكاني, وما زال الاستيلاء على الباستيل نداء -إلى الباستيل- الذي تفوهت به امرأة من العامة في الذاكرة الجمعية, فمن مصلحة المجتمع الأوروبي إعادة هيكلة بنيته الاجتماعية بحيث يتم دمج المهاجرين في نسيجه والحوار مع الداخل يسبق الحوار مع الخارج, وتحديث روح أوروبا يسبق تنميتها وعولمتها واقتصادها وأسواقها, والهجرة من الشاطىء الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط إلى شماله إضافة لا نقصا, وإيجابا لا سلبا, تعبر عن وحدة حضارة الحوض عبر آلاف السنين.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية