|
منوعات
ثمانية وعشرون عاما مرت منذ أن دس أحدهم كلمتين همسا في أذني .. إنه جبران كورية مدير التحرير ?? .. كنت أتابع الرجل مذهولا في ساعة متأخرة من ليل الزميلة تشرين وأنا الصحفي المبتدىء, أتراه .. كيف هدم بناء من ثلاث صفحات تقرر استبدالها واستعاض عنها بثلاث أخر أعدها على عجل .. أوعز ببعض موادها لمن توفر من الزملاء ساهرا أو زائرا , فيما كتب بنفسه بعضا منها ولم يبق سوى القليل القليل لتهدر آلة الطبع .. أخذتني البداهة يومها, وسحرني الإتقان وسرعة الأداء .. وفوق هذا وذاك, تلك الروح المرحة .. تضفي على المكان حضورا يحلحل ما انعقد وتعقد, ويبسط كفيه عطاء دون مقابل, ويهدم الجدران والحواجز .. فهذه مهنة العطاء دون انتظار الأجر . مشهد من آلاف, انطبع في الذاكرة كما النقش على الحجر .. هكذا يكون المتقدمون في الصفوف .. وهكذا تورق حبات العرق .. والظلمة الطارئة تستحيل ألقا, بل هكذا يكون الأساتذة والأوائل في الرعيل .. سحائب لا تتوقف عن الهطل وجذور ضاربة في العمق لا تمل القرع في نواقيس الذاكرة ! على الدروب ذاتها رحل جبران كورية, بمرض أو بغيره, لكن .. ليس دون ذكرى وذاكرة, وليس دون حقول وبيادر, رحل وقد أرسل راحتيه عميقا في تربة صحافتنا تلميذا وأستاذا ,تنشق عطرها .. من أبخرة الرصاص المذاب في مطابعها, الى تقنيات الضوء والصورة, كتب وصف حروفها حرفا بعد حرف, ورتل مقامات الفرح والحزن فيها ترتيلا, رحل ليقول لنا, نحن زملاء الدرب في عشق الكلمة وقصة الحب بين الحروف .. أن ساعي البريد سيظل يتردد في المكاتب والردهات وبين آلات الطبع وعجلات التوزيع, ينقل رسائل الموقف والكلمة والرأي, ويعود بصدى الخوالي من أيام ذاكرة لا تمل استحضار العبر والدروس ? هي سنة الكون ولامناص , هي حكمة التجدد والبعث ولا فكاك, وهي الكلمة تستعيد الحياة كلما انتعشت الذاكرة .. والذاكرة لا تحتضر, لكن العزاء, كل العزاء لعائلته وأصدقائه وزملائه على السواء .. أن لا قيمة للأجساد فيما الأرواح تذرع الذاكرة وتدق نواقيسها, ولا بقاء للأشياء في حضرة القيمة والأثر, ولا خلاص من الموت سوى بتفريع الحياة .. وداعا جبران كورية ?? |
|