|
الملحق الثقافي على أسس هندسيّة أو حجميّة، وقد أعلنت عن نفسها عندما حاول الفنان سيزان أن يجعل من الفن كياناً ثابتاً، وذلك بتقوية البنية المعماريّة للشكل عن طريق تناغم الألوان واختلاف درجاتها. في ذلك الوقت، كانت المدرسة الوحشيّة قد انتهت ولم يكن مضى على ولادتها منذ معرض الوحشيين عام 1905 أكثر من خمس سنوات. أما الاتجاه التكعيبي أو الحجمي الذي حمل لواءه الفنان براك ثم ديران، ثم انضم إليهما بيكاسو ليعملوا جميعاً على إنماء وإطلاق هذه الحركة الجديدة، وصادف يومها أن أصدر المجمع الفرنسي اصطلاحاً علمياً هو «التبلور» فربط براك بين الشكل البلوري «وهو الشكل الأولي للأجسام» مع أعمال سيزان التي أخرجها وهي تحمل صفات «البارثينون المعماريّة» فوجد فيها مطابقة مع فكرة التبلور، والتي تبدو فيها الصور ذات أضلاع وزوايا وسطوح، وقد قام سيزان بتثبيت هذه العلاقات في فنه، وبقي أميناً للواقع، فلم يقم قط بتحريفه أو تفكيكه، أما جماعة الحجم والتبلور، فقد طمحوا لتجاوز سيزان حتى يصلوا إلى الشكل الداخلي في اللوحة، حتى ولو اضطروا إلى تحطيم الأشكال الواقعيّة، والاستغناء عن الموضوع في العمل الفني. وهكذا تابع براك ما كان قد بدأه سيزان من اختزاله لأشكال طبيعيّة، وفقاً لنظام هندسي، منح من خلالها هذه الأشكال متانة، وأضفى عليها الجمال، وما كان قد أوجده سواره من أسلوب فني اعتمد فيه على البناء المعماري، وعلى دربة عقليّة واعيّة. أما بالنسبة للنحت، فقد كان أكثر استجابة للاتجاه التكعيبي من الرسم، نظراً لانسجام التكعيبيّة مع الكتلة النحتيّة والحجم، وقد كان براك وبيكاسو وهنري توران ودوشان فيللون أول من باشر التكعيبيّة في النحت، ثم جاء غونزاليز، وبتشيوني، وبرانكوزي، وليبتشيز.
الأسلوب التكعيبي إلى جانب براك، قام بيكاسو بتجارب تأكد من خلالها أن المسطحات والأضلاع المستقيمة الحادة هي من العناصر الطبيعيّة الأساسيّة للشكل، وعندما أقام براك معرضه الأول عام 1908 أطلق الصحفي لويس فوسيل على الأسلوب الذي نفذ فيه لوحات هذا المعرض «الأسلوب التكعيبي». لم تعجب هذه التسمية براك وبيكاسو في البداية، لكنهما تابعا الاشتغال على هذا الأسلوب والرؤى الفنية الجديدة، ثم انضم إليهما جوان غري وفرناند ليجيه وروبير دولوني. مرت التكعيبيّة بعدة مراحل منها المرحلة التحليليّة، والمرحلة التركيبيّة، ومرحلة التلصيق «الكولاج» والمرحلة «العلمية» كما لدى براك وبيكاسو، والموسيقيّة أو الأورفيّة كما لدى دولوني، والتجريديّة كما لدى موندريان. يمثل الأسلوب التكعيبي ضرباً من التأليف بين عناصر مستلهمة من أشكال الطبيعة بعد تحليلها والكشف عما وراء مظاهرها الخارجيّة من قوانين تتحكم في تكوينها الأساسي المبني على مفهوم التبلور، وعلى المبدأ الذي جاء به براك والقائل أن القاعدة تُصحح الانفعال والأسلوب. أو أن القاعدة سابقة على الانفعال، وهذا هو منطق ديكارت الذي يجعل الفكر سابقاً للوجود عبر مقولته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وبناءً عليه، رأى التكعيبيون أن معالجة الشكل أهم من الاستجابة إلى الإحساس الطليق، الأمر الذي دفعهم لإهمال اللون والصيغ الجماليّة، والتركيز على البناء الهندسي. مراحل التكعيبيّة ابتدأت التكعيبية مسيرتها بالمرحلة التحليليّة العام 1909 التي قام خلالها الفنان التكعيبي بتجزيء الأجسام إلى مكعبات، ثم تجميع هذه المكعبات ضمن أشكال. بعد ذلك انصرف بيكاسو وبراك إلى معالجة هذه المكعبات والحجوم عن طريق التلاعب بالظلال للإيهام بالحركة ورؤية الجسم الهندسي من زوايا مختلفة، وقد اتسم الفن التكعيبي في هذه المرحلة بالبدائيّة وتمثله لوحة بيكاسو «آنسات أفينيون». بعدها جاءت المرحلة التركيبيّة، وهي رد فعل على المرحلة التحليليّة، حيث أراد الفنان التكعيبي من خلالها، إنقاذ الشكل من التفتيت الذي طاوله في المرحلة السابقة، كما أدخل براك خلالها إلى سطح اللوحة مواد وخامات مختلفة، عن طريق التلصيق «الكولاج» لرفع شأن الأشياء المبتذلة والرخيصة وإغناء سطح اللوحة، حيث أضاف قطع الخيش وعلب الكبريت وقصاصات الجرائد إليه. مع فرناند ليجيه انعطفت التكعيبيّة إلى البنائيّة، أما دولوني فقد سعى إلى تحريرها من الجفاف الذي ألم بها، باعتماده أسلوباً شاعرياً موسيقياً، حوّل فيه الأشكال إلى مسطحات ملونة زاهية ذات طابع تجريدي، احتضنت انفعالات حرة أطلق عليها الشاعر غيوم أبوللينير «الأورفيّة». لقد حاول التكعيبيون النظر إلى الطبيعة بأفكارهم وليس بأعينهم، معتمدين على مقولة: العالم المرئي لا يصير واقعياً إلا بفعل الفكر، ولهذا حاولوا أن ينقلوا إلى سطح اللوحة الحجم والمدى، مستخدمين سطحين هندسيين، واستبدلوا الشيء المفكر فيه بالشيء المرئي، الأمر الذي شكّل نقطة تحول في فن الرسم والتصوير، ومن هنا تحديداً، أخذت تتشكل ملامح القطيعة غير المسبوقة مع موروث عصر النهضة، وفي الوقت نفسه، قامت التكعيبيّة ببناء جسر وصل بين الوحشيّة والسورياليّة، وغازلت في الوقت نفسه، المستقبليّة والبنائيّة الروسيّة، والتعبيريّة الألمانيّة، ومدرسة الباوهاوس، وجماعة الجسر، والدادائيّة. اعتباراً من العام 1914، بدأ زخم التكعيبيّة يخف إلى أن توقف، لكن ظلت أصداؤها تتردد هنا وهناك، في حركة التشكيل العالمي المعاصر، ولا زالت كذلك حتى اليوم. أصداء واسعة لم تقتصر التكعيبيّة على الفنون التشكيليّة، بل وصل تأثيرها إلى فن العمارة، والأثاث، وأشكال الأواني، والأدوات الاستخداميّة، والحلي، ورسوم المنسوجات، والفنون التطبيقيّة التي شهدت والعمارة خلال القرن العشرين تطوراً ملحوظاً بفضل التعكيبيّة، ثم التجريديّة، كما انبثق منها مذهبان فنيان هامان هما: البنائيّة والتفوقيّة. الأولى جاءت جواباً على التعبيريّة والتكعيبيّة في آنٍ معاً، فمن خلال البنائيّة خلق الفنان عالمه الجديد بوساطة الحجوم المختلفة، كالكرات والمكعبات والمخاريط والأسطوانات، ساعياً من وراء التشكيل المجرد، والتعبير المتقن، إلى ابتكار أسلوب جديد، يحمل مفهوماً جديداً للجمال، يستنهض من الشكل الميكانيكي، شاعريّة فياضة، كما في أعمال فرناند ليجيه. أما التفوقيّة، فهي طريقة مشتقة من البنائيّة، وقد حمل لواءها مالفيتش، الذي استند فيها إلى أساس علمي عقلي، وعالج من خلالها، قوانين الخط «الرسم» واللون والبعد الثالث ومادة التعبير، ناشداً الصفاء والضياء الروحي، وشاقاً من خلالها، طريقاً إلى تجريديّة جديدة، أكثر تشذيباً ووسامة وتركيباً. |
|