تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


رحلة النيلوفر التاريخ يبدأ من دمشق

الملحق الثقافي
18-6-2013م
نورا محمد علي:ما زالت بلادنا تدعو إلى حوار الحضارات، باعتبارنا جيران في عالم واحد، وما يزال ثقل وتراكم تاريخنا يمدنا بالانفتاح وحوار مع الآخر المختلف،

وربما المحدث في ثقافته وجذوره وعوالمه، والمهووس ربما نتيجة ما به من نقص أمام الشرق المكتمل في بنائه الإنساني والديني والأخلاقي وتوهجه كشعلة من علم ومقدرات. ولا تتوقف محاولات الآخر المحدث لاستعمار الشرق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً.‏

في روايته (رحلة النيلوفر – أو آخر الأمويين) يطرح الكاتب والموسيقي السوري وليد الحجار، هذا الصراع المحموم للاستحواذ على تاريخنا وآثارنا بأساليب تعددت صورها منها الثقافية ومنها السياحية ومنها عن طريق بعثات وسفارات وصفقات قذرة تتم في الخفاء.‏

ولأن التاريخ، يبدأ من دمشق، كذلك أحداث الرواية. فراس، بطل الرواية هو دمشقي تدفعه الدهشة لاكتشاف الآخر ومدنه وحضاراته، يكشف عبر تجواله في عدة عواصم ومدن في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا بنظرة يمدها به تراكم أصوله التي صدرت الأبجدية والشعر والفلسفة للبشرية، يكشف زيف واجهات الشخوص والمجتمعات لتظهر بحقيقتها هياكل من الاستهلاك، تحولت إلى آلات مبرمجة في مجتمع ما زالت تحكمه أرتال من الخرافات والشعوذات، وحتى الطقوس الوثنية.‏

تكشف الرواية الحدود الوهمية بين (نحن) و(هم)، وزيفاً ثقافياً واجتماعياً مورس إعلامياً باعتبارهم المتفوقون علمياً ونظمياً، وإضفاء صبغة العالمية على أفكارهم وبضائعهم، لتنهار هذه الأكاذيب أمام ابن دمشق الذي يدرك أن الهدف الأكبر لهم هو تاريخنا ولا شي سواه.‏

ومن أجواء الرواية، حوار بين فراس والكاردينال: «فالعرب اليوم هم آخر من يبحث عن حقيقة تاريخهم وهذه‏

الحقيقة باتت واقعاً علمياً بحتاً، منذ أن أصبحوا لا يعترفون على علم أو تاريخ أو فلسفة إلا إن كان مصدره ممهوراً بأختامنا الأوربية، أليس عجيباً أن نكون قد نجحنا تماماً في غسل أدمغتهم لدرجة أنهم إذا ما خيل لهم أنهم أدركوا ذلك عادوا إلينا نحن يطلبون العلاج؟ أليس مذهلاً عن أوسعهم علماً اليوم، إذا ما أدركوا أن هناك من زور تاريخهم أو بدل فيه، يعودون إلينا نحن يطلبون منا ومن مصادرنا المزورة إرشادهم إلى اكتشاف الحقيقية؟».‏

تدور أهم أحداث الرواية وانكشاف أخطر فصولها في ورشة لتزوير الوثائق الشرقية، يدفع للعاملين فيها مبالغ طائلة، لإنجاز هذه المهمة وليطلق (الحجار) قنبلة صادمة في وجه القارئ على ما يجري في أقبية الورشات من تزوير وسرقة وتشويه لتاريخ العرب، إذ يكشف أن جميع الوثائق والمخطوطات التي وقعت بيد الإسبان أيام سقوط غرناطة، قد تم تحويرها والاستفادة منها، بل وسرقتها من قبل الفيلسوف الأشهر (ديكارت) في مؤلفه (مقال الطريقة)، إذ تثبت إحدى الوثائق المخبأة في غرفة من غرف الورشة، أن الفيلسوف العربي (ابن خلدون) خلص وكتب أشهر عبارات الفلسفة المنسوبة لديكارت، يقول ابن خلدون في المخطوط المسروق: «أنا أشك إذن أنا أفكر، وبما أني أفكر إذن أنا موجود والعالم موجود كذلك وهو بالتالي فكر ومساحة».‏

ويبرر (الحجار) أن هذا المخطوط بقي طي الكتمان لحذر ابن خلدون من إظهاره أمام الملأ لنزعة الحكم الإسلامي السائدة في عصره من جهة، ورغبته في الاحتفاظ بمنصبه في القضاء بمصر من جهة أخرى.‏

تعاني الرواية من اختزال الحكاية، إذ تعج بسرد يتراوح بين الحبكة البوليسية، وبين كثير من الأفكار والتفاصيل والفلسفة الخاصة بالروائي والتي تتهوج لتعكس نظرته المشبعة بالإيمان الأوحد بعد أسفاره المتشعبة، أن لا مكان في الكون كدمشق، وأن كل المؤامرات والأحقاد منذ الأزل سقطت على أسوارها.‏

ويلعب المكان الدور الأكبر في الرواية، إذ بتغيره تنقلب أجواء العمل وشخوصه وحتى مزاج البطل (فراس)، فهو في أوروبا شخص صامت، مفكر، مراقب، ويحسن الإمساك ببعض تفاصيل علاقاته مع الآخر، متحملاً معادلاته الهزيلة والمنفصلة فكرياً وأخلاقياً عن الصورة الكاذبة المصدرة لنا، تعج حياتهم بالخواء والشذوذ والأمراض والعقد التي تظهر جلياً أمام سعارهم للاستيلاء على أي نص أو صك قديم يستطيعون الوصول إليه في دمشق تحديداً. وتكاد تخلو أي شخصية من السوية والتوازن، إذ تبدو بلباس أنيق، يخفي تحته خيبات وفراغاً تدور في فلكه إلى ما لا نهاية.‏

هي صرخة الكاتب في وجه شبابنا الحالم باكتشاف أوروبا وانفتاحه على عالم أرحب، أن حلمهم مهلهل ومزيف. وهنا يقرر البطل العودة إلى شرقه، متقبلاً سلبياته وتناقضاته، عوضاً عن بديل فارغ، ومثير للشفقة، يقرر العودة للحفاظ على ما تبقى من سطوة السرقات، وليكشف حقيقة ما يجري من تهريب للتاريخ وللإنسان ولحضارة بات يعرف أكثر من أي وقت مضى، قيمتها المرتبطة كلياً بقيمته وامتداده.‏

يعود البطل عودة سمك السلمون الذي يعاني جنون التيار للوصول إلى موقع نشأته. وعلى إيقاع الذاكرة يمشي فراس في أزقة دمشق، متأملاً فناً معمارياً يوازي فن التعايش، إذ تبدو البيوت متراصة، بحيث إذا هدم أي جدار في أي بيت تسقط البيوت الباقية، كلعبة الدومينو.‏

وفي جولة سحرية بخصوصية الناس والبيوت والعلاقات، يعرج الكاتب على دمشق من كل زواياها الاجتماعية التي يخزنها في ذاكرته، عن البيوت والألفة وجلسات الرجال وصبحيات النساء، وعلى السياسة التي كانت فناً دمشقياً من نوع آخر، فكم من الغزاة مروا، دكوا البيوت، وحطموا القلاع، وكم نهض أهل البلد، يرفعون الأسوار وبنفس الحجارة، يعيدون البناء؟ كم مرة خرجت هذه المدينة، عنقاء متجددة، وكسرت رهانات الزوال؟‏

بهذه الرواية الجميلة والتي تقع ضمن 632 صفحة، يناقش وليد الحجار تناقضات الشرق والغرب، بكل أبعادها، ويعكس وجهة نظره التي تكمن في أن حضارة الشرق بأرضه وإنسانه وحده من أشعل وسيشعل جنون الغرب لاحتواء الشرق ومحاولة الغرب المتكررة بتحجيم الشرق والسيطرة على كل ما يمت لانتمائه ولجذوره. واليوم تظهر إحدى صور هذه النظرة العميقة (رغم أن الرواية عمرها ما يقارب عشرين عاماً) من خلال السعار المجنون لهدم الإنسان السوري والذي أوصل حقدهم إلى جذوره، وإلى أوابد وآثار لم نكن ربما نعرف أنها عقدتهم المتأصلة، لأن البشرية من سورية انبثقت. اليوم وفي تسلسل غير بريء، ولم يأت بالمصادفة، تتعرض آثارنا للنهب وللخراب المدروس، لكن هيهات، فكل شبر من أرض سورية تاريخ، وكل عمل ثقافي وإبداعي كان وسيظل يشير إليهم بالتهمة، وسينزع ورقة التوت عن قبحهم.‏

وليد الحجار من مواليد دمشق، تلقى دراسته الابتدائية والمتوسطة في معهد برمانا العالي الإنكليزي؛ حيث بدأ دراسة الموسيقا الكلاسيكية. وبعد الثانوية سافر إلى استنبول لدراسة الهندسة، لكنه تركها مؤثراً دراسة الفن في فرنسا، وهناك درس التأليف الموسيقي والفن التشكيلي، وسافر في أواخر الخمسينيات إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإتمام دراسته. له عدد من المؤلفات الموسيقية وثلاث روايات.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية