تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حكايات صغيرة

هذا جولاننا
الأثنين 17/11/2008
سوزان ابراهيم

كنت طفلة مولعة بالحكايا وبعوالمها وغاباتها المسحورة كان أبي يجيد, بل يبرع في تأليف الحكايات وروايتها في سهراتنا التي خلت من شاشة التلفزيون,

ولأن غياب الصورة يترك للمخيلة أمداء للركض في جنباتها, كنت أرسم الصور في ذاكرتي بما لدي من إدراك طفولي ينسجم مع سنواتي الخمس أو الست‏

أذكر في إحدى سهراتنا الشتوية في بيت جدي لأمي وكان لديهم تلفزيون, كنت أمقت نشرة الأخبار وأدعي النوم إلى أن تنتهي لكنني أسمع مايرد فيها من أنباء, ومازالت ذاكرتي تختزن كلمات مثل: العدوان الصهيوني الغاشم, أو غارة جوية شنها العدو الصهيوني الغاصب, ولأنني تركت لمخيلتي رسم ذلك العدو, جاء شكله مشوهاً أسود لايشبه الشكل الآدمي على أي حال, وبقيت تلك الصورة زمناً لابأس به. في مرحلة تالية, تابعت التلفزيون وكم أثار غضبي أن أرى أن لذلك العدو الصهيوني شكلاً آدمياً يشبهنا ولم يكن أسود!‏

لعلي كنت في الرابعة من العمر, لا أذكر السبب الذي استدعى صفارات الانذار, لكنني مازلت أذكر مستودعاً واسعاً احتشدت في جنبات عتمته عشرات الأمهات والأطفال, بكاء وصراخ وهلع وأصوات أمهات يحاولن تهدئة النحيب والخوف, أذكر أيضاً وفي وقت آخر كيف سارعت أمي إلى طلاء زجاج الأبواب والنوافذ بالأزرق القاتم ووضع الشريط اللاصق عليه خشية أن تتسبب غارة جوية عدوة بسقوطه وإيذاء أحدنا, كما أذكر إطفاء الأنوار والاحتماء بحضنها على ضوء الشموع أو قنديل الكاز الشهير, ولأن أبي كان دائم الغياب لأنه مزروع على الجبهات الأمامية, كانت أمي تتابع نشرات الأخبار عبر أثير إذاعة دمشق- بيان: جاءنا من الناطق العسكري مايلي: استطاعت قواتنا الجوية الباسلة إسقاط طائرتي ميراج للعدو الصهيوني, واكتشفت أن ذلك العدو الذي يتنكر بهيئة تشبهنا مازال كما رسمته مخيلة الطفولة.. أسود مشوهاً!.‏

مضت سنوات العمر- لكن الطفلة مازالت تحب الحكايا- تابعت نشرات الأخبار وصور المجازر, كانت شراييني تنزف ذلك الدم المراق على تراب الوطن.‏

في جنوب لبنان ومن مرتفعات مارون الراس وعيتا الشعب كنت قادرة على رؤية الأرض المحتلة المحتجزة خلف الأسلاك الشائكة حين تنشقت ذلك الهواء, كانت رائحته مميزة فهو يحمل أريج القدس وبحيرة طبرية ومسعدة وجبل الشيخ المطل بوجهه الآخر على لبنان, في البعيد الراقد في المدى المجدي للنظر رأيت سيارات العدو الصهيوني وأعلاماً.. كانت للوهلة الأولى ذات ألوان بيضاء وزرقاء لكنني سرعان مارأيت حقيقتها..إنها سوداء مشوهة!‏

ذات رجوع, حلقت الطائرة فوق قبرص متجهة نحو أجواء الشقيق لبنان, ثم لتدخل الأجواء السورية من بوابة معلولا, كان حرمون العالي متوجاً بالأبيض النقي, بعدئذ انعطفت الطائرة نحو دمشق, ماكان لأي جهاز تخطيط للقلب في كل هذه اليابسة أن يحدد بدقة ماهية ضربات قلبي وأنا أرى دمشق- التي عشقتها طفلة - تتلألأ بذلك البهاء.‏

قدتكون تلك البلاد البعيدة جميلة ومتقدمة ومتطورة, قد تكون .. وقد تكون.. لكنها دمشق التي أهوى, عش الطفولة الغارقة في عوالم السحر وبيوت عرائس السكر! مضت السنوات ومازلت أكره نشرات الأخبار لكل ماتحمله من مشاهد عنف وقتل ودماء لكن يقيني بقي أكيداً من سواد وتشوه ذلك العدو.‏

suzani@aloola.sy‏

">‏

suzani@aloola.sy‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية