تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بيكر في حضرة حافظ الأسد

محطة
الأثنين 17/11/2008
د.خلف الجراد

تحلّ في هذه الأيام الذكرى الثامنة والثلاثون للحركة التصحيحية, التي قادها مؤسس سورية المعاصرة المناضل القومي الكبير حافظ الأسد.

وبهذه المناسبة الوطنية العظيمة أردت أن أتقاسم مع القرّاء الأكارم شهادة موثقة للسيد جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق بحق القائد الخالد حافظ الأسد, وردت في مواضع عديدة في مذكراته الصادرة في عام 1999.‏‏

ففي معرض حديثه بشأن التحضيرات التي جرت لعقد المؤتمر الدولي للسلام, يقول بيكر إنه توصل إلى نتيجة مفادها أن سورية هي المفتاح لأي تقدم مهم في هذا الاتجاه, وقال: (أتذكر أنني كنت أحاول التعرف على شخصية الرئيس حافظ الأسد وأسلوبه في التفاوض وتفكيره وكيفية تعامله مع القضايا, وتأكدت من أن الأسد يحظى بسمعته كرجل مفكر وجاد وصادق العزم لا يستسلم) .‏‏

ويضيف: (لقد أبلغني رابين أن الأسد واحدٌ من ألدّ أعدائه. لكنه أذكى لاعب في الشرق الأوسط).‏‏

وقد أشار بيكر إلى أنه تأكد شخصياً منذ لقائه الأول بالأسد ( في 14 أيلول 1990) وعلى مدى أحد عشر اجتماعاً أن الأسد رجل يلتزم بكلمته, وأنه شديد البأس والصلابة, فإذا توصلت معه إلى اتفاق ما, يلتزم به حرفياً, ولكن المشكلة تكمن في أن كل كلمة تأخذها منه تحتاج إلى (معركة أعصاب) واجتماعات مطولة, تستغرق ساعات عديدة دون انقطاع, خاصة أن الأسد لا يظهر أي لين على الإطلاق في مسألة الأرض, ومساندة الكفاح الفلسطيني المسلح ضد الاحتلال الاسرائيلي (المذكرات, الطبعة العربية, ص621-622).‏‏

ويدهش بيكر الصبرُ العظيم, الذي يتصف به حافظ الأسد, حيث كان يكرر على مسامعه عشرات المرات دون تغيير مقولته القاطعة: (يجب أن يفهم كل اسرائيلي إنه لا يمكن إقامة أي سلام دون إعادة الجولان كاملاً, ودون إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة, وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره الوطني, وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.. وأنه بدون سورية لن يكون هناك سلام عربي اسرائيلي).‏‏

أما أطرف ما قرأته في مذكرات بيكر بشأن لقاءاته مع القائد الخالد حافظ الأسد, فقد جاء تحت عنوان (دبلوماسية المثانة), وفيه يقصّ بتفصيل حكاية اجتماعهما في 23 نيسان 1991 بدمشق, الذي يصفه (بأنه كان أصعب وأشق مفاوضات أجريها على الإطلاق, حيث بدت مفاوضاتي المطولة للحد من التسلح (مع السوفييت) بالغة اليسر. واستغرق الاجتماع تسع ساعات وستاً وأربعين دقيقة دون انقطاع في غرفة خانقة لا تطاق, لا يسري فيها سوى النذر اليسير من الهواء المكيف, بنوافذ مغلقة بستائر سميكة زيتونية اللون, وضَّيفنا الأسدُ القهوة التركية الثقيلة وعصير الليمون شديد الحلاوة.. وبعد مرور ست ساعات على بدء الاجتماع ألحَّ (نداء الطبيعة) على السفير (الأمريكي بدمشق) إدوارد دجرجيان. وفيما أسهب الأسد في حديثه المطول حول اتفاقية سايكس بيكو وآثارها السيئة في المنطقة, بلغ الموقف حدّاً حرجاً. وكتب لي دجرجيان ملحوظة بخط مضطرب يذكرني بإثارة قضية سياسية معينة لم تثر حتى الآن. وقال فيها: (وبالطبع فإن الوقت ملائم لك الآن للذهاب إلى دورة المياه).‏‏

ويسترسل بيكر في وصف حالته العصبية والنفسية آنئذ فيقول: (كانت كليتاي تعملان بنشاط يستعصي تفسيره, لذا فقد أشرت له بالخروج. كانت نظرة الكرب البادية على وجهه بالغة الدلالة, وأومأ إلى وزير الخارجية السوري بأنه يحتاج إلى مكالمة عاجلة مهمة, وأثناء غيابه كشفت طبيعة (مهمة) دجيرجيان, وقلت: (السيد الرئيس لك أن تتعجب لماذا ذهب السفير إلى دورة المياه لإجراء مكالمة هاتفية مهمة من هناك.. وانفجر الأسد في الضحك. ولدى عودة دجرجيان تظاهرنا بأننا لا نعرف شيئاً).‏‏

ويضيف: (وبعد ساعة أو أكثر سحبت منديلاً أبيض اللون ولوحت به للأسد, وأعلنت (استسلامي).. عليَّ أن أذهب إلى الحَّمام). وهكذا نحتُُّّ الوصف الذي سأظلّ أطلقه دائماً على مباحثاتي لثلاث وستين ساعة مع الأسد- (دبلوماسية المثانة). (المذكرات, ص662).‏‏

لقد وصف بيكر مفاوضاته مع القائد العربي القومي حافظ الأسد, بأنها كانت تشكل دائماً مباراة صعبة وقاسية ( مخططة بدقة عالية من جانب الأسد), تتطلب أقصى درجات التحمل, (فالأسد صاحب عزيمة شديدة الصلابة. كنّا نجلس دوماً متجاورين على مقعدين كبيرين يشعراني بأني أبدو كالقزم أمام أبي الهول. فقدماه ملتصقتان بالأرض, وركبتاه مضمومتان, ويداه معقودتان في حجره, ولا يغيّر هذه الوضع على الإطلاق, وكم كنت في حاجة دائماً لإجراء تدليك (مسّاج) عقب كل لقاء معه, حيث كان النظر إلى يساري بزاوية تسعين درجة يصيب رقبتي بالتشنج, لكنّ الأسد على الجانب الآخر لا يبدي أدنى قدر من عدم الارتياح.. ويبدو أن هذه الجلسات المجهدة هي أسلوب تفاوضي مدروس لمحاولة الفوز عن طريق الإجهاد) (المذكرات , ص662).‏‏

ويخلص جيمس بيكر إلى القول بأن: (الأسد أصعب مفاوض قابلته في حياتي الدبلوماسية الطويلة, وأنه شخصية ذات إرادة قوية ودهاء شديد, وصلابة عظيمة في الدفاع عن مصالح بلده وأمته, يفرض عليك احترامه, سواء اختلفت معه أو اتفقت).‏‏

شهادة لا نعتقد أنها تحتاج إلى شرح أو تحليل أو تعقيب.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية