تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قطار!!...

آراء
الأثنين 25-5-2009م
جلال خير بك

استبطن ذاكرته الأولى وهو يرى أن القطار ماضٍ نحو المجهول.. فلاحت صور رفاقه وأصدقائه القدامى.. فمنهم من طواه الزمن ومنهم من لا يزال يمشي الهوينا نحو غدٍ تلوح فيه بيارق من عتب وغياب،

وتشعل في حناياه بقايا شموس ونيران تعيد إلى الأيام الماضية ذكراها الأليفة وتضيف إلى اللوحة ألواناً جديدة لا تلغي كآبتها ومسحة الحزن التي تلفّها.‏

كانت الآفاق يومها رحيبة يمشي الزمان على خطاها وتأسر أعنّته القاسية وتصنع من المستحيل ممكناً ومن الصعاب برداً وسلاما!!.. يوم كانت الأرض مزهرة خضراء لا ينقصها الريّ ولا عنان الفضاء، والبشر فيها تملؤها البساطة والقناعة فلا تثقلهم حاجاتٌ أضحت اليوم فوق طاقاتهم وعصيّة الإدراك.. كان الزمان وقتها يمشي الهوينا ويلفّ الأحناء بأبراده البسيطة.. والأنهار تجري دافقة رضيّة تنشر الخضرة ذات اليمين وذات الشمال وتمنح الإنسان إحساساً عميقاً بالهدوء والسكينة وروعة الأيام.‏

لاحت في المخيلة ذكريات الشباب والجامعة وصور الذين عاشوا تلك الفترة بالصخب والهدوءوالهموم على أكتافهم لا تزال فتيّة.. وتتالت صور أيام المهرجانات الجامعية ومهرجانات الكليات، إذ لا تعرف الكلل، حيث أبدعت طاقاتٍ غدت الآن قاماتٍ أدبية معروفة.‏

كان الطالب يومها يمضي معظم أوقاته في الجامعة نهاراً وردحاً من المساء حيث تتوالى جلسات المناظرات الثقافية والنقد الأدبي.. إذ لم يكن الواحد آنذاك يحمل هموم قصائده أو قصصه التي تلقى في مقصف الجامعة بحضور أساتذتهم الذين شاركوهم جميع أنشطتهم الثقافية، لله كم كانت تلك الأيام جميلة وكم كان الشعر فارس الحلقات المجلّي.. وكم كان الجوّ الأدبي فوّاراً وله حضوره المميز وأمسياته التي لا تنتهي.. فماذا حصل للدنيا اليوم؟‏

إن الأماسي الأدبية باتت لا تستقطب إلا اليسير من الحضور وباتت تلك الحيوية: من ذكريات الماضي. وغرق كلّ إنسان في همومه وتأمين حاجاته وغدا أبناؤه «الأطفال يومها» رجالاً تطحنهم الحياة وهم لائبون لتأمين متطلباتها.. إنه زمان طغى فيه الخليوي والفضائيات والانترنت على معظم مناحي الحياة.. وغدت المسلسلات أو أفلام الرعب والقتل والدمار واللصوصية: هي سيدة الوقت والاهتمام، وانزوى الأدب ومريدوه القلائل في زاويته الضيّقة!!‏

وغدت الكلمة متروكةً لنفر قليل، والكتاب يعزّ عليه التداول فتستمر في المكتبات وعلى الأرصفة ينتظر الذين يحبونه وهم قلائل وفقراء في غالبهم!!‏

وفي تلك الأيام التي تتراءى الآن: لم تكن صرعات الموضة والألبسة الزاهية والسيارات الفخمة: تسيطر على الناس إلا نفراً قليلاً.. وكانت المتطلبات يسيرة لا تدهم الجيوب دون رحمة!! وحتى الجو والطبيعة كانا بمنأى عمّا هو كائن الآن. ولربما كانت الجامعة ومقصفها الطلابي تستقطب الاهتمام فلا يضطر الطلاب إلى مغادرتها ما دام فيها مطعم طلابي بسعر زهيد!!‏

لا يدري أحد كيف صار حال الناس والشباب بخاصة : إلى ما صار إليه... ولم انحسرت روعة الكتاب والقراءة إلى هذه الحدود.. كان الشباب في ذلك الزمان يتلقفون الكتب والمجموعات الشعرية والقصصية والروايات بلهفة الشوق إلى الكشف والمعرفة... وكان أساتذة الجامعات وكلياتها المختلفة وعلى الأخص كلية الآداب:‏

يحضون الطلبة على القراءة ويشاركونهم في مهرجاناتهم فما نزال نذكر أساتذة قسم اللغة العربية يتصدرون الصفوف في المهرجانات الشعرية والحفلات الأدبية التي يقيمها الأدباء الشباب من الطلبة، والقاعة تغص بالحضور: يشاركونهم بحميمية لافتة.‏

ويلوح في الذاكرة من نافذة ذلك القطار الذي يمشي بنا سريعاً.. صور المعلمين والأساتذة الأوائل...‏

يوم كان جل همهم أن يطمئنوا على وصول دروسهم التي يشرحونها:‏

إلى أذهان الطلاب حيث يغص كل صف بأربعين إلى خمسين طالباً.. وقاعات الجامعة حيث يكون الطلاب الواقفون يعادلون من قيض لهم أن يظفروا بمكان على مقعد!1‏

آنذاك لم يكن البرد والزمهرير هو الشغل الشاغل للطالب... بل كان الهم الأكبر هو استيعاب الدرس الذي يصغون إليه باستغراق كبير.. ولم يكن للأساتذة هم يفوق اهتمامهم وحرصهم على استيعاب الطلاب وعلى الأخص أن الحياة لم تكن تطحنهم مثل هذه الأيام.‏

ماذا حدث للناس والكون الآن؟! وأية صورة وصلت إليها الحياة؟ وأي عالم هذا الذي يعيش على أنفاس الانسان فتتحكم الالة بمصيره البشري؟ وتستنزفه اللحظات قطرة قطرة فتلغي تفيكره وهدوءه وتحيله إلى آلة شبه صمّاء تركض خلف مصيرها الاستهلاكي المحموم؟!‏

إن القطار يمشي والزمان يأخذ منحنى آخر بعيداً عن مضمونه العظيم: بأن الانسان هو القيمة الأسمى...‏

والاستبطان والذكريات لم تعد مجدية في هذا العصر الآسر..‏

والأمل بالمستقبل المشرق للفرد حل مكانه السعي المحموم لإدارك أفق لا يطاله ولحل معادلة لا يبدو أن لها حلولاً!!‏

متى يتوقف القطار؟ ذلك ما لا يدريه أحد.. من يبقى فيه ومن ينزل إلى رصيف الحياة ليقله قطار آخر:‏

فتلك معضلة ظلت عبر التاريخ عصية على الادراك والتوقع والتفسير... ولا يزال الزمان يمشي والبشر بين يديه : ثقل يسهل اقتياده بعد أن كان الانسان عصيّاً وكان جموحه يتوقع أن يدرك كنه المستحيل ويفسر اللغز الاول وينهب الحياة رغماً عن العواصف الدائمة!!‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية