|
اقتصاديات الاقتصادي, غير صاحب القرار, يهتدي ببوصلته,أي بالنظرية الاقتصادية,التي يعتقد بصحتها, مصيباً كان أم مخطئاً,من أجل السعي لتحقيق النمو المستدام أي التنمية الاقتصادية والاجتماعية. أما وزير المالية, ومهما يكن اختصاصه,فيسعى لإيجاد الإيرادات الكفيلة بتلبية تمويل الخدمات دون أن يذبح الدجاجات التي تبيض ذهباً.ولا أعتقد أن هناك قراراً أقل شعبيةً من القرارين التاليين: رفع معدلات الضريبة أو رفع الدعم عن سلع الاستهلاك الشعبي.يبدو أن الحكومة قد أرجأت,على مضض, موضوع رفع الدعم عن المشتقات النفطية في ضوء ردّات الفعل التي ملأت الصحف والمجلات من النقابيين والاقتصاديين الأكاديميين المنتمين لمدارس اقتصادية محددة وغيرهم كثر. ولكني لم أقرأ ردّات فعل رجال الأعمال. وكلٌ من هؤلاء يهتدي ببوصلته الخاصة.ويبقى السؤال الذي يجب أن يطرحه المتداخلون على أنفسهم:هل يمكن الاستمرار بالسياسة المالية الحالية دون تعريض النمو الاقتصادي,الذي حقّقه الاقتصاد السوري,لخطر التوقّف والى المزيد من التضخم بسبب زيادة الانفاق ونقص الموارد? وما يتلازم مع ذلك من تردي أوضاع أصحاب الدخل المحدود بسبب تآكل قدراتهم الشرائية, إذا لم يتوافر في الموازنة موارد لتغطية الزيادات في الأجور.لقد ذكر السيد الرئيس في خطاب القسم:)كانت الأولوية الأولى الواضحة من خلال التواصل المباشر مع شعبنا بقطاعاته المختلفة هي الهم المعيشي.لذلك أولينا هذا الجانب الاهتمام الأكبر... نحن نفكر في هذا الموضوع, نحن كل يوم نفكربه)(انتهى كلام السيد الرئيس).إذاً المطلوب إيجاد الموارد لزيادة دخول ذوي الدخل المحدود وذوي الدخول المتدنية. ولا نعتقد أن أحداً ينكرأن استمرار الدعم على حاله,سيكون سبباً في نقص ايرادات الخزينة: الحكومة تشتري قسماً من المشتقات النفطية وغيرها من السلع بالسعر العالمي,وهو الى تزايد,وتبيعها بسعرٍ مدعومٍ أقل بكثير من سعر الشراء; ولا أحد ينكر أيضاً أن الاستمرار بالاعفاءات الضريبية(تقلّصت هذه الاعفاءات ولكنها لم تنتهِ) وتخفيض معدلات الضريبة على المكلفين بهدف تشجيع الاستثمارسوف يؤديان الى تعقيد المشكلة.غير أن تشجيع الاستثمار ممكن دون تخفيض الضرائب, من خلال تنفيذ الإصلاح الإداري والتخفيف من الفساد,الذي يطرد الاستثمار الجاد المخاطر ويحفّز على المضاربة والركض وراء اقتناص الفرص.كما لا نعتقد أن أحداً يمكن أن يُنكر أن سياسة الدعم المتبعة منذ نحوٍ أربعين عاماً قادت الى ظواهر غير محمودة في الاقتصاد الوطني: الهدر, التهريب, الأسواق السوداء, المضاربة بالإضافة الى تفاقم عجز الموازنة وتراجع حجم الدولة في الاقتصاد الوطني بما في ذلك تراجع الانفاق الاستثماري وتردي الخدمات العامة الخ... إننا نعتقد أن معالجة الوضع الاقتصادي العام يقتضي بالضرورة معالجة الآثار المترتبة على الدعم بمعالجة جذوره وليس بترقيع نتائجه فقط بحيث لا نحتاج الى ترقيعات جديدة دائماً. ولهذا مطلوبٌ من الاقتصاديين ومن السياسيين أيضاً البحث في خريطة طريق توصل الى الأهداف التي كانت وراء سياسة الدعم دون ان تقود الى تعميق الاستقطاب في الدخول والثروات. إننا نعتقد أن المدخل الى هذه الخريطة يكون أولاً في خلق آلية مناسبة لإعادة توزيع الدخل(زيادة حجم الدولة,تحسين الخدمات, معالجة الهم المعيشي بزيادة الأجور ومكافحة البطالة) ومن ثمّ إجراء دراسات جادة وواقعية تتناول النقاط التالية: 1- تحديد نصيب المشتقات النفطية في تكلفة كلٍ من الانتاج الصناعي والزراعي والنقل لتحديد الانعكاس السلبي على تكلفة المنتجات من أجل تعرُّف أثر رفع الدعم على الأسعار وبالتالي على تكلفة المعيشة. 2- تعرّف نصيب المشتقات النفطية في الناتج المحلي الاجمالي من أجل حساب الزيادات المتوقعة في معدلات التضخم,في حال رفع الدعم, وبالتالي ارتفاع المؤشر العام للأسعار لأخذ ذلك بالحسبان عند تقرير التعويض لأصحاب الدخول المحدودة في الجهاز الحكومي وفي القطاع الخاص أيضاً.ففي ظل وجود معدل بطالة غير قليل لا يمكن لآلية السوق جعل الأجور مساوية لتكلفة المعيشة(يرجى العودة الى مقالنا:التنمية واعادة توزيع الدخل). 3- تعريف دقيق لفئات الضعفاء اقتصادياً وتعرّف كيفية الوصول اليهم من أجل لحظ اعتمادات كافية في الموازنة تضمن توفير الحد الأدنى من العيش الكريم لهم. 4- ثم إجراء المعالجة اللازمة لإلغاء الدعم, نهائياً بالمحصّلة, والتعويض على المتضررين الفعليين بالأسلوب المتبع في دول اقتصاد السوق ومن ثم الاحتكام الى آلية السوق في توضّع الأسعار وتحريك الأجور بما يتوافق مع ذلك.أليس من المعروف أن ذوي الدخل المحدود في الدول المتقدمة العاملين في الجهاز الحكومي وفي الشركات الخاصة ترتبط أجورهم بالرقم القياسي للأسعار أو بمعدلات التضخم شهراً بشهر!! إن خريطة الطريق للوصول الى الأهداف تكون ,برأينا بعد زيادة الأجور, على النحو التالي : أ- الرفع التدريجي للدعم حتى إنهائه وخلال مدة غير قصيرة من الزمن والابتعاد عن أسلوب العلاج بالصدمة. ب- تجميع عائدات رفع الدعم في صندوق خاص للإنفاق منه على زيادات الأجور وتقديم الإعانات النقدية للضعفاء اقتصادياً والمحتاجين اجتماعياً إضافة الى توجيه الفائض في الصندوق الى تغذية موازنة الدولة من أجل زيادة الانفاق الاستثماري وخلق فرص عمل وتوليد قيم مضافة خاصةً في قطاع الصناعة التحويلية,تسهم في زيادة إيرادات الموازنة. ت- قبل الدخول في أي مرحلة جديدة من تخفيض الدعم ورفع الأجور يجب إجراء مسح حول تأثير الاجراءات الملطّفة(التعويضية) في المرحلة السابقة لمعرفة فعاليتها والنظر في تصحيحها عند الضرورة. أما فيما يتعلق بالفعاليات الأخرى من ذوي الدخول الحرة(من غير الضعفاء اقتصادياً),بما في ذلك المنتجون الحرفيون والزراعيون وأصحاب المصانع وغيرهم من أصحاب الدخول غير المحدودة, فلا يقلقنّ أحد على أوضاعهم لأن آلية السوق كفيلة بإفساح المجال أمامهم لتسوية أوضاعهم, فارتفاع الأسعار ينتقل بالعدوى. وإذا كان بعض الاقتصاديين يخشون على القدرة التنافسية لصادراتنا بسبب أسعار الطاقة فإن أسعار الصادرات تتحدد بالقيمة الاجتماعية الدولية للمنتجات ويستطيع المصدرون رفع تنافسيتهم باعتماد التكنولوجيات التي تُطبّق لدى المنافسين الآخرين وتحسين انتاجية العمل في مؤسساتهم لتخفيض تكلفة منتجاتهم. وإذا اقتضى الأمر عند الضرورة يمكن للحكومة الصرف من صندوق عائدات رفع الدعم لدعم الصادرات في مرحلة انتقالية, ولمدة مؤقتة فقط,لمساعدة المنتجين على التكيّف مع الظروف الجديدة.ثم ألم نلاحظ أن الحكومة أوقفت تصدير الكثير من المواد لحماية القدرة الشرائية للمستهلكين!!فكيف نخشى على الصادرات ما دامت تباع بأعلى من أثمانها في السوق المحلية!! والخلاصة فإن أوضاع أصحاب الدخل المحدود ستعالج بتحريك الأجور تبعاً لتحرُّك الأسعار أما بالنسبة للفئات الأخرى فإن أوضاعهم ستتعدّل أوتوماتيكياً وفقاً لآلية السوق. لأن توزيع عائدات الغاء الدعم,التي تقدرها الحكومة بمبلغ 350 مليار ل.س. سوف تزيد في الطلب على السلع والخدمات فترفع أسعارها وتعود بزيادة دخول هذه الفئات وتمارس قوانين السوق فعلها. شريطة أن تمارس الحكومة دورها في ضبط الأسعار مرحلياً بما يتوافق مع الارتفاعات الناتجة عن الغاء الدعم وفتح المجال أمام استيراد السلع لتحقيق التوازن بين العرض والطلب. المهم إذاً حماية حقوق ذوي الدخل المحدود,وعدم إعاقة عمل آلية السوق التي تتكفّل بترتيب أوضاع باقي فئات الشعب.ويبقى تدخّل الحكومة,استثنائياً,صمام الأمان في حال فشلت آلية السوق. *وزير سابق |
|