|
معاً على الطريق إلى تعريف دقيق وشبه متفق عليه للثقافة وللمثقف حتى ضمن إطارات عريضة فضفاضة, وعلى الأخص بعد هذه القفزات النوعية الهائلة في مجال الحاسب والانترنت والفضائيات, فأنا ما زلت مصراً على أن نسبة لا يستهان بها ممن يطلق عليهم أو يطلقون على أنفسهم صفة أو لقب مثقفين هم جهلة وأشباه أميين, وعليه ما هو شكل الثقافة التي ستكون دمشق عاصمة لها? بداية أقول إن اختيار مدينة كعاصمة للثقافة لا يكون بسبب عراقتها التاريخية فقط وإلا لجرى اختيار الأقصر أو تدمر أو البتراء أو مدائن صالح عواصم للثقافة لكن السبب وراء الاختيار هو دراسة ماتجمع في بوتقة أي مدينة عريقة حية من تراكمات ثقافية تفيد الراهن والمستقبل ضمن إطار إنساني شمولي. ثانياً: معروف أن الثقافة المبدعة الأصيلة لا تعيش إلا ضمن إطار تفاعلي تلاقحي تكاملي بين مختلف العناصر المكونة لها من علوم وفلسفات وايديولوجيات وفنون وأدبيات, وأنها يجب أن تنأى قدر الإمكان عن مختلف أشكال العصبيات السياسية, لكن ما يفسد الثقافة بعامة والثقافة العربية خاصة هو السياسة التي باتت تتدخل بكل صغيرة وكبيرة في مختلف ساحاتها وشؤونها لمصالح قطرية ومحاورية خاصة. وضمن الأجواء السائدة والتي تحاول محاصرة سورية وعزلها بسبب مواقفها الممانعة ليس مستبعداً أن يجري العمل على إضعاف أو التقليل من شأن هذه المناسبة القومية العالمية, فمحاولات مقاطعة الدراما السورية خلال هذا العام باتت مكشوفة ومعلنة على نطاق واسع رغم التميز الاستثنائي لهذه الدراما, وعليه يجب التنبيه مبكراً إلى هذه الناحية, ومحاولة حشد جهد إعلامي عالي المستوى لتخليص الثقافة من براثن السياسة حتى يقوم المثقفون العرب بالدور الذي يمليه عليه واجبهم وشرفهم تجاه تكامل وفاعلية الثقافة العربية, بعيداً عن مختلف الحساسيات على الصعيد السياسي أو الإيديولوجي أو المحاوري. ثالثاً: إن دمشق أو أي مدينة أخرى, بما تذخر به من عادات وتقاليد وأعراف وثقافات, هي أولاً وأخيراً ملك لأهلها, ومختلف أنظمة الحكم التي مرت عليها هي جزء من تاريخها, والشعب هو المعول عليه في إبراز مختلف أشكال الثقافة والإبداع التي تتميز بها مدينته, وعليه فإنه من دون مشاركة شعبية تلقائية أصيلة وعميقة وواسعة لا يمكن أن نصل إلى مبتغانا, والأمر لا يمكن أن يقف عند حدود نواد أو جمعيات محدودة التأثير كجمعية أصدقاء دمشق التي تقوم بجهود مشكورة, لكنها ضيقة النطاق جداً نظراً لإمكاناتها المتواضعة, لكن تبقى المشكلة في إقناع الشعب بالمشاركة الفاعلة عبر إشعاره بأن دمشق هي مدينته وليست مدينة الرسميين والمتنفذين. لو ألقينا نظرة خاطفة على ما يقوم به الشعب الألماني مثلاً لإحياء ذكرى موزارت أو بيتهوفن أو غيرهما من المبدعين, لرأينا العجب العجاب. في عام 1979 دعيت إلى طشقند للمشاركة في العيد الألفي لابن سينا وكان احتفال أوزبكستان يمثل ذروة الاحتفالات التي جرت في مختلف جمهوريات الاتحاد السوفييتي بحكم كون ابن سينا أوزبكياً وقد حضر الاحتفال رئيس الجمهورية ومختلف القيادات الحزبية والسياسية والفكرية والإبداعية, لكن ذروة الاحتفالات الحقيقية كانت في مدينة بخارى التي كانت إحدى قراها والتي تدعى (أفشنة) مسقط رأس ابن سينا, ولو كان كتاب غينيس للأرقام القياسية موجوداً أو متابعاً آنذاك لسجل أكبر مائدة في التاريخ بطول عشرات أو مئات الكيلومترات, فكل بيت وضع مائدة على حصته من الرصيف متصلة بمائدة جاره, وهكذا امتدت الموائد على مختلف أرصفة بخارى, وكان كل صاحب بيت يتوسل المارين أن يذوقوا لقمة واحدة من طعامه وعلمت أنه قد جرى التحضير لهذا الأمر فردياً وطوعياً قبل بضعة أشهر. طبعاً نحن لا نحلم بقيام مثل هذه الأمور لكننا نؤكد على أن الدور الشعبي شيء فاعل وحاسم ولا يمكن إقناع الشعب بلعب دوره بشكل فوقي واستعلائي, بل بإقناعه أنه شريك أساسي في العملية بأسرها. رابعاً: مع احترامي لوزير الثقافة الصديق د.رياض نعسان آغا ول د.حنان قصاب حسن التي تجمعني معها ومع زوجها وعائلتها علاقات صداقة حميمة فإن المهمة قعصاء والأدوات هزيلة. فوزارة الثقافة منذ أن ولدت ولدت كسيحة لكثرة ما أنيط بها من اعباء, فمحو الأمية على سبيل المثال كان بحاجة إلى وزارة خاصة واسعة القدرات والنفوذ, لكن محو الأمية وإبان تنفيذ القرار الحاسم رقم سبعة القاضي بدفن آخر أمي في سورية في عام 1977 كانت تابعة لمديرية ملحقة بوزارة الثقافة اسمها مديرية محو الأمية, وكان مديرها ضابطاً متقاعداً هو الراحل سميح العيسى, وفي أواسط السبعينيات غادر وزير الثقافة فوزي الكيالي الوزارة وغادر سورية إلى أميركا آخذاً معه الجمل بما حمل. ما أود الوصول إليه أنه لا يجوز تحميل وزارة الثقافة اعباء هي غير قادرة عليها من الناحية البنيوية واللوجستية والمؤسساتية, ولابد من البحث عن إطارات أوسع وأضخم بكثير لتنفيذ هذه المهمة القومية والإنسانية, كي يجري نوع من التوازن بين الثقل السياسي الاقليمي والدولي الذي تلعبه سورية وبين الثقل الثقافي والحضاري الذي تحتله بشكل فعلي. خامساً: ثمة التباس بين كلمة (دمشق) وبين كلمة (الشام) فكلمات مثل دمشق والفيحاء وجلق هي تسميات تاريخية أما كلمة الشام فهي التسمية الحقيقية لدمشق, فهي شام شريف عند قاطبة المسلمين التي كان ينطلق منها المحمل الشامي للحج إلى الأراضي المقدسة, وكل الشوارع التي تنطلق إليها من المدن والقرى والبلدات المؤدية إليها يطلق عليها طريق أو درب الشام وحتى أهالي أطراف دمشق مثل الشيخ محي الدين والمهاجرين والميدان والقصاع كانوا يقولون نازلين على الشام. وعليه فإن دمشق ليست عاصمة سورية السياسية بل هي عاصمة بلاد الشام الطبيعية وأعني سورية ولبنان وفلسطين والأردن, وعليه فإن على مثقفي هذه الكيانات السياسية التي تمزقت بفعل معاهدة سايكس -بيكو أن يتوحدوا لإظهار الأبهة الثقافية لعاصمة بلاد الشام وهم ليسوا بحاجة لأي نوع من أنواع الدعوات لأنها عاصمتهم الحقيقية والروحية بصرف النظر عن الترهات السياسية. خامساً: اعتبرت دمشق اتفاقاً قلب العروبة النابض وشكلت المهاد الحقيقي للثورة العربية الكبرى قبل أن تنحرف هذه الثورة عن أهدافها, ومثلت بؤرة اليقظة والوعي والنهوض العربي, وأرجو أن تستعيد دورها كعاصمة للثقافة رغم كل هذه الظلال الغربانية المشؤومة. |
|