تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في ذكرى رحيله.. سليمان العيسى.. والوجه الآخر من الألم

ثقافة
الاثنين 14-8-2017
ديب علي حسن

أنا خلية في جسد عربي تبحث عن ملايين الخلايا، خلية عربية تبحث عن مثيلاته، آه, لو تعرف يا شاعر الحلم والدهشة والبراءة لو تعرف ماذا فعلت بقايا الخلايا،

لو تعرف كيف صار الدرب إلى يافا ليس رصيفا من دمنا تجتث قصة عرشه الغدار كما قلت ذات يوم، الدرب إلى يافا أسهل الدروب عليهم، ولهم،‏

أقرب المنابر، وأكثر المواقف حميمية تجاهها، أتعرف أن مزق ضحايانا واشلاءنا هي الرصيف إلى مكان آخر، لو تعلم أنهم حرموا أطفالنا من روعة اناشيدك: لم تعد فلسطين داري ودرب انتصاري، على شفة كل طفل، شرموا الشفاه التي رددتها، قالوا عنك ما قالوا، صارت اناشيدهم: بالذبح جيناكم.‏‏

‏‏

اتعرف أيها الشاعر أن في جعبة الدرب إلى بيتك الاخضر الى نداك وانت تتوكأ عكازك تستقبل ضيوفك على الباب، ألف ألف حكاية، ورواية، امس في معرض الكتاب بدورته الحالية، سمعت طفلا يسأل أمه: ماما من هذا الشاعر، اغرورقت عينا الام بدمعة دارت وجهها بعيدا لئلا تفضحها شهقة في الاعماق وتقول: أحقا جاء الزمن الذي يسأل فيه طفل سوري: من هذا ؟‏‏

سليمان العيسى، ملء الحناجر، ملء القلب والنبض، انشودة المطر وعمي منصور، كلها لم تعد تروق لهم، ويسأل احدهم: من هذا، طفل حرم من اناشيدك وتصحرت مناهجنا فكان ما كان، أتعرف أن محمد حسنين هيكل الكاتب والمفكر المصري سئل قبيل رحيله عن الامبراطورية الاميركية فقال: لا توجد امبراطورية اميركية، رد السائل: كيف؟‏‏

فقال هيكل: بريطانيا وحدها مازالت الامبراطورية، لأن لغتها هي سيدة اللغات الآن، هي التي تتحكم بالعالم، اللغة هي التي تجعل هذه الدولة أو تلك الامبراطورية، وكان تشرشل قال قبل ذلك بعقود: تتخلى بريطانيا عن تاجها الذي لا تغيب عنه الشمس، ولا تتخلى عن شكسبير، وها نحن تخلينا عن جدك المتنبي وابي فراس وحطمنا بسيوف الردة ابي العلاء المعري والفراتي، وذبحنا من الوريد إلى الوريد شعراء وكتابا، وكنا قبل قد عقمنا مناهجنا منك ومن نزار قباني، وبدوي الجبل، ونديم محمد والاخطل الصغير؟‏‏

أحقا، لا تعرف أننا فعلنا ذلك واتينا بخلطة مناهجنا فيها أناشيد وقصائد طبخ الحصى اسهل من حفظها، ألا تعرف أنه ليس على الطالب كما يقول أحد عباقرة مناهجنا أن يحفظ شيئا، فقط ليفكر، ولكن كيف سيفكر وبلا لغة، بلا تاريخ، بلا وبلا و هذا ما علمتهم إياه حروب داعش؟‏‏

‏‏

نعم، ليس على الطالب أن يعرف جمال ورونق لغتها العربية بحفظ اربعة ابيات،ليس له أو عليه أن وأن وغير ذلك كثير؟‏‏

حقا تعرف ذلك وربما كان صمتك في مرضك يعني حنجرة تغص بدروب الآلام لكنك كنت تقول حين ترانا طاعنين في الصمت واليأس: سورية بخير، سورية ولادة، وهي الخلية السليمة التي ستطرد كل خلايا العفن، وتشد إليها ما تبقى من نضرتنا فلتتكاثر كالندى الطهر.‏‏

نعم، امس كنت ضيفا في مكتبة الاسد، ولكنك على رأي جدك العظيم المتنبي، غريب الوجه واليد واللسان، لم تصرخ لم تستجد أحدا، كنت تراقب المشهد اذ كان آخرون يستعرضون مهارات الزيف في اماكن اخرى، يطردون الاصيل، وكأني بك تقول: العملة الزائفة تطرد الأصيلة. حقا إنه الواقع، ولكنه ليس ثابتا، قد تمضي عقود عليه، لكن قوة الفعل ستجرفه إلى غير رجعة.‏‏

أطفالك السمر في الميدان من نفروا، هاهم يعيدون الق زنوبيا، وعذب الفرات وقمم اللاذقية ومروج درعا ويخضبون حقول القمح في الحسكة، وكزهر التفاح في السويداء، وفي جبل الشيخ كالمطر المجدول صاعقة، على أقدامهم سقط المحال وأورقت الرجولة والرجال.‏‏

انت راهنت على الطفولة وقد يئست من خشب الكبار، وكان رهانك حقيقيا، صحيح أن بعضهم كما الشوكة القاسية جاء لكنه اقتلع بأظافر من افتدى الوطن، واليوم أراهن، نراهن على جيل مريم وخديجة، وجورج وعلي،،اسامة وخالد، ومن في القائمة يكبرون في وطن جراحه أكبر من خارطة ترابه، لكن فداءه أعظم وأنبل من كل فداء، فداء للعالم كله، أتعرف أننا غارقون الآن في الزيف، بعضنا يظن نفسه وقد تورم أنه بحجم لكون لم يعد يرى إلا ظلال نفسه وليتها كانت ظلالا، اتعرف أن حبرنا فسد، أتعرف أن راقصة ما كما كان الامر سابقا هي التي يحتفى بها من قبل البعض،،اتعرف أن الدعي هو من يقرب وبعد أن يتخم من زاد الوطن يفر خائنا ليغب من مال السحت، ولكن الجولة وعلى طولها سبع عجاف عرتهم، كشفتهم، ومع ذلك كثيرون مازالوا في واجهة الضوء وهم ينشرون الظلام ؟‏‏

أتعرف أن بغداد عانقت دمشق، وأطل فجر عربي شامي المولد والهوى، قلت يوما ما: وهبتك عمري، ما وهبت سوى الظما...‏‏

أتعرف وكنت اشعر أن السماء تحملني عندما توقع لي اهداء بقولك: أيها الغائب الحاضر, اتعرف يا سيدي أني ما زلت اشعر بالرهبة كلما مررت قرب السروات التي تزين حديقتكم وكنت أسميت إحداها (الرمح) الاخضر ؟ومازال البيتان اللذان كانا آخر ما خطت يداك المبدعتان (من اجلي) مازالا طيي القلب، وها هما كما كتبتهما إلى الاستاذ الدكتور محسن بلال، يوم كان وزيرا للاعلام؟؟أتعرف أني كنت أود أن اكتب عن ديوانك الضاحك وجهك الآخر كما قلت لكني لم أجد نفسي إلا وأنا في جرح الذكرى أتعطر بندى من رحلوا، ومن ضحوا؟‏‏

مرت من يومين ذكرى رحيلك بصمت وهدوء، الكل مشغول بما نعرف ولانعرف، يوم رحلت كانوا مشغولين ايضا بما أعرفه وتعرفه أنت ويعرفه الكثيرون ووحدهم لايعرفون بما كانوا وسيبقون عليه، الصمت مقبرة الكون، فلرحيلك كل ضجيج وصخب اطفالنا وغدا سيعودون يغنون: فلسطين داري ودرب انتصاري....‏‏

d.hasan09@gmail.com ‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية